الرأيالمغرب اليوم

جسرنا الإمبراطوري الجديد..

● كتب:يونس مسكين//

■أعجبني كثيرا الاستفزاز الذي سبّبه مقالي السابق الذي حمل عنوان “الفتح الكهربائي للأندلس”، لأنه استفزاز من النوع الإيجابي، لكونه يحمل القراء على التفاعل والتفكير والتعقيب، وإن كان ذلك بالنقد والمعارضة…

المراقب للأحداث والقرارات والسياسات التي تصدر عن المغرب أو تتعلْق به، مجبر بقوة الواقع على النظر إليها في سياق تاريخي، بأن المغرب دولة “تاريخية” بامتياز، وخلافا لدول أخرى، نحن امتداد مباشر لما كنّا عليه منذ قرون.

التاريخ هو الذي صنع ما نحن عليه اليوم، ويواصل الفعل فينا وفي محيطنا لتحديد حاضرنا ومستقبلنا.

وقبل أن يجفّ “حبر” المقال السابق”، وجدتني أواصل النظر للأحداث من هذه الزاوية التاريخية، لأن من غير الممكن أن يكون مجرد استقبال روتيني ذاك الذي خصّ به الملك محمد السادس، أول أمس الاثنين 28 أبريل 2025، وزراء خارجية مالي والنيجر وبوركينا فاسو.

بل هو مشهد من مشاهد التاريخ حين يختار لحظة جديدة لينبعث من رماده، ويتخذ من الرباط منبرا لإعلان خارطة جيوسياسية جديدة في غرب القارة.

المبادرة الأطلسية المغربية، التي تهدف إلى ربط الدول الحبيسة في الساحل بموانئ المغرب على الساحل الأطلسي، ليست مشروع تنمية أو شراكة جنوب جنوب فقط، بل هي بعثٌ جديد لذلك الجسر الإمبراطوري الذي بناه المغرب ذات يوم، أيام كان يحكم مراكش ويصل إلى تمبكتو، وكان يربط بين الأندلس وواحات النيجر، وبين البحر والمحيط، وبين الفكر والعمران، وبين القوة والعدل.

ما جرى عبر الرباط ليس مجرد إعلان نوايا دبلوماسية، بل هو حدث يعكس زلزالا ناعما يعيد ترتيب القوى على امتداد الضفة الغربية من المتوسط وصولا إلى قلب الساحل والصحراء. المغرب، الذي طالما رُسم في الأذهان الأوروبية كبلد “نام”، وفقير، وهامشي، أصبح فجأة “الممر الإجباري” لكل من يريد دخول إفريقيا أو الخروج منها. ولم يعد مجرد تابع على الهامش، بل مهندس في المركز.

انظر إلى سخرية المصادفة: بينما كانت إسبانيا تغرق في ليلة من الظلام إثر انقطاع غير مسبوق للكهرباء، يوم 28 أبريل 2025، كان الجنوب المغربي يضخّ النور عبر الكابلات نحو الأندلس.

وفي الاتجاه المعاكس، من الرباط إلى باماكو ونيامي وواكادوغو، كان المغرب يشق طريقه من جديد. لا على صهوة الخيل كما فعل المرابطون، بل على متن قطارات وتحالفات وموانئ تربط الساحل بالمحيط، وتكسر قيد الجغرافيا، وتضع المغرب مجددا في موقع الجسر لا الجدار، في موقع المنصة لا الزاوية الميتة.

المبادرة الأطلسية ليست مشروع بنية تحتية، بل بنية تصورية، تصوغ تصورا جديدا للعلاقات الإقليمية، خارج إطارات “المغرب الكبير” المأزوم، و”الإيكواس” المتصدعة، و”الاتحاد الإفريقي” المنهك.

ولأن الجغرافيا وحدها لا تصنع القوة، كان لا بد من التحالفات. وهنا تتقاطع مصالح أوروبا الباحثة عن أمن طاقي واستقرار حدودي، مع مصالح أمريكا التي تعيد تموضعها في إفريقيا في ظل تمدد روسي وصيني، ومع مصالح دول الساحل التي تنفك عن الاستعمار القديم وتبحث عن بديل واقعي وفاعل.

والنتيجة: صعود مغربي حذر ولكنه صلب، مرن ولكنه متمسّك بمصالحه.

أما إسبانيا، فاختارت أن تعبّر عن تفاعلها مع هذه الموجة بفتح قنوات قانونية لمنح الجنسية للصحراويين الذين تم إحصاؤهم في عهد احتلالها للصحراء. إجراء ظاهره إداري، لكن باطنه سياسي محض.

إنها خطوة اعتراف ضمني، في توقيت بالغ الحساسية، بدورها التاريخي ومسؤوليتها في توفير مخارج لسكان المخيمات، وتأكيد بأن هذا الملف لم يُطوَ بعد، وأن مدريد تسعى لتأمين موقعها في التسوية القادمة، ولو من خلال ما تبقّى من روابط قانونية مع سكان الإقليم.

فبينما كانت الرباط تمد كابلات النور إلى الجنوب الإسباني، كانت مدريد تمد خيوط الجنسية إلى الجنوب المغربي. المفارقة بالغة الدلالة، ومليئة برمزية الانعكاسات الجيوسياسية الجارية.

في الجهة الشرقية، تبدو الجزائر كمن فاته القطار، بتعبير الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح.

دولة حبيسة سرديات الستينيات، عاجزة عن إنتاج تصور استراتيجي جديد. دعمت البوليساريو لعقود، فوجدت نفسها اليوم محاصرة بواقع جديد لا يعترف بمنطق الحرب الباردة ولا باستعمال الورقة الصحراوية كسلاح استنزاف.

التحولات التي تشهدها تندوف حاليا، بما فيها الاضطرابات الأمنية المتلاحقة، قد تكون إشارات النهاية لمعسكر لم يعد يناسب الزمن.

في باريس، صمت متوتر يُخفي إعادة ترتيب. فرنسا، التي طُردت شعبيا من الساحل، تعرف أن طريق العودة يمر من الرباط. المغرب لم يعد فقط شريكا، بل أصبح وسيطا ضروريا.

من يدري؟ ربما صار أكثر فاعلية في أفريقيا الفرنكوفونية من صاحب اللغة نفسه.

أما واشنطن، فهي ترسم تموضعها الجديد على إيقاع التحولات الكبرى. انتهى عهد القواعد الصلبة، وبدأ عصر الشركاء الموثوقين. المناورات المشتركة، والتعاون الاستخباراتي، وشبكات اللوجستيك… كل ذلك يجعل من المغرب منصة استراتيجية حقيقية، لا مجرد حليف رمزي.

لكل ما سبق، لا أستطيع شخصيا أن أنظر إلى أحداث استعراضية مثل قطع التيار الكهربائي عن إسبانيا، وقرصنة قاعدة بيانات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في المغرب، إلا كأعراض لهذا المخاض الذي تعيشه المنطقة لتولد من جديد.

أن تقرصن بيانات المغاربة الشخصية، فإن أسهل مشجب لتعلّق عليه الشعب هو ربط العملية بالجزائر. وأن تغرق شبه الجزيرة الايبيرية في الظلام، فإن أسهل طريقة لجعل الإسبان يهضمون الواقعة هو ربطها بالخصم الروسي المحتمل.

بينما الحقيقة قد تكون كامنة هناك، بعيدا، في عمق المصالح الكبرى الآخذة في إعادة التشكّل في هذه المنطقة.

هذا التحول الجاري ليس ظرفيا. بل هو تتويج لتراكم طويل، وصبر كثير، وشبكة خيارات مدروسة. لكنه، في الآن نفسه، اختبار لقدرة المغرب على التحوّل إلى قوة اقتراح، لا مجرد قوة تنفيذ.

لقد عاد الجسر الإمبراطوري. لا بالقوة المسلحة، بل برؤية ناعمة ولكنها حازمة. المغرب، الذي ربط بين الأندلس وتمبكتو قبل ألف عام، يعيد بناء دوره، هذه المرة بطاقة الشمس، ولغة الدبلوماسية، ومنطق الربح المتبادل.

التاريخ لا يمنح جوائزه إلا لمن يتقن قراءة خرائطه المتحركة. والمغرب، اليوم، يكتب فصلا جديدا في كتاب كان يظنه البعض قد طُوي.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى