جزاء المغرب الغير النافع من نفع الأموال المقترضة: سوس وبواديها نموذجا.
- بقلم امحمد القاضي//
في تصنيف جديد ظهر هذا الشهر حول البلدان الأكثر مديونية للصندوق الدولي، جاء المغرب في الصفوف الأولى على الصعيد العالمي، وإحتل المرتبة الثانية على مستوى الدول العربية بقيمة 2.1 مليار دولار، مسبوقا بدولة مصر (أنظر الجدول)، وإحتل المرتبة السابعة إفريقيا. الإشكالية ليست في حجم الإقتراض، بقدرما جدوى هاته القروض الضخمة في تحسين عيش الساكنة وتنمية البلد؟ أو بالأحرى ما حصة العالم القروي من نتائجها الميدانية؟
نحن هنا لسنا بصدد تقديم تحليل الإقتصاديين المختصين، هذا مجال نتركه لأهل الإختصاص، لكن نتساءل بكل سداجة وعقلية مواطن بدوي بسيط يسمع الخبر فيطلق تخميناته للعنان وسط أعالي المغرب العميق.
من المعلوم أن الصندوق هدفه الرسمي يتمثل في مساعدة الدول التي تشهد إقتصادياتها تعثرات من خلال تقديم قروض مالية ومراجعات لبرامج تسيير خططها الحكومية وإقتراح طرق تدبير ماليتها من أجل النهوض بالأوضاع الإقتصادية وتنمية ثرواتها الداخلية. الصندوق الدولي، لا يختلف عن الأبناء العادية من حيث البحث عن الضمانات، وتأمين موارد وبناء توقعات.
كما يشاع، البنك لا يقرض إلا للميسورين، إذ من أجل الحصول على قرض لابد من ضمانات مجحفة لإسترجاع القرض، وغالبا ما تكون هذه الضمانات الفاقدة للرحمة بالنسبة للدول على شكل فرض “إصلاحات” لا شعبية قد تضرب القدرة الشرائية للمواطن، كما حصل مع إصلاح منظومة التقاعد، وتقليص دعم صندوق المقاصة، والزيادات المتثالية في بعض المواد والخدمات، وتقليص الإنفاق العام خاصة في المؤسسات العمومية ونهج سياسية التقشف وضرب بعض المكتسبات ذات أولوية كالتعليم والصحة التي قد تمتص المداخيل وتحتاج مصاريف ضخمة.
بمعنى آخر، نرهن مصير بلد ومصير أمة بأكملها، جراء سوء تدبير وتوزيع لمواردنا، من أجل حلم ورفاهية وأهداف تظل حبيسة بنود الإتفاقيات. كالموظف السكير الذي يقترض أويصرف أجرته من أجل متعة عابرة عمرها ليلة زائلة، وتعيش أسرته على التقشف طوال الشهر وحلم إمتلاك مسكن، وتستمر المعانات في إنتظار عفو من الله.
بصيغة أكثر سطحية وبداهة، إذا كانت القروض أبغض الحلول، وضرورة في جل الحالات للخروج من الأزمات أو كحل مؤقت للقفز للأعلى وتحسين ظروف ومستوى العيش، كما يحصل عند جل العائلات والمقاولات المغربية، فإنه حين يصل المقترض لهدفه وراء القرض في مدة وجيزة فهذا دليل على نجاعة التدبير والتخطيط ووضوح الرؤية المستقبلية. كما هو حال بعض البلدان كإيثيوبيا وسنغفورة وغيرها.
لكن حين يصبح القرض فخ قاتل وعائق للتنمية وسبب للإفلاس وتدهور الأحوال المعيشية فالخلل في تكوين شخصية المقترض، سواء كان شخصا ذاتيا، أو مقاولة أو بلد. ولربما هذا هو حال بلدنا.
للعبرة، توجسات وفاجعات المديونية عبر العالم مؤلمة. تجربة اليونان بفلاسفتها إلتفت حولها الدول الأوروبية لإنقادها وفشلت. لبنان حيث “الغضب الصاطع آث”، كما غنت فيروز، البلد الأقرب إلينا وجدانيا يغرق في صمت، أما الأرجنتين بميسي الكرات الذهبية والعجول الفحلة غارقة إلى الأذنين كأول بلد أكثر إستدانة لدى الصندوق. أما المغرب بواجهته البراقة، الولد البار والتلميذ النجيب المبتلع لتعليمات صناديق أسماك القرش رغم علمه بعواقبها، موطن الأضرحة ومرقد الأولياء ومركز الزوايا، ندعو الله أن تحميه بركة الشرفاء من السكتة القلبية التي كادت أن تؤدي بحياته في تسعينيات القرن الماضي.
تعددت الصناديق المانحة للمغرب حيث جابت القارات الخمس، منها صناديق عربية، وأخرى إفريقية، وأبناك أوروبية وبعضها أمريكية إضافة لهبات الدول الصديقة والبلد مازال قابع في أسفل الرتب تنمويا. القروض بلغت أرقاما فلكية وأحجاما قياسية. كي لا ننعت بالعدمية، نحن نثمن المنجزات الوطنية الكبرى والأوراش المفتوحة الرائدة إقليميا ودوليا، والرامية للرقي بالوطن.
مع ذلك يبقى الإهتمام بالإنسان الجبلي ضرورة ذات قيمة عليا. كما وجب علينا فضح خيانة الأمانة، لأن الصمت والسكوت على الحيف جزء من التواطئ والتطبيع مع الفساد.
بعبارة أكثر مجازا، الجسد المغربي يتغذى على القروض، لكن ينخره الفساد، النزيف الحاد يجري في الذات المريضة أخلاقيا بوتيرة شيطانية، لن يترك معه أملا للعلاج. النزيف يصعب تحديده في موقع واحد، إنه ورم سرطاني قاتل متفشي في جل الأعضاء ويسري في دماء الجسم، لن ينفع معه آخر الدواء الذي هو الكي، الوباء بلغ درجة شوه الخلق، ويصعب إستئصاله، اللهم أستر من سكتة قلبية مفاجئة.
المثل الشعبي يقول: “المال السايب كيعلم السرقة”. خلاصة القول أن القروض كانت غنيمة، “جابها الله” سلمت للمبدرين للتدبير، كمن عين ذئبا لرعاية الغنم، وأصبح حاميها من مسؤولين ومنتخبيين هم حراميها، وإلا كيف نفسر متابعات عدة منتخبين ومسؤولين ساميين قضائيا في جرائم فساد، وإختلاس المال العام. إنها لوصمة عار على جبين البلد.
عادة ما يرجى من القرض نفع على المدى المتوسط، لكن عندنا أصبح ضرره الآني أكثر من نفعه البعيد المنال. سوء تدبير القروض وإنعدام رؤية إستراتيجية دامجة وشاملة، وإقصاء المغرب الغير النافع من حصته في برامج الإنتفاع بالمال العام يسيئ للبلد ويغرق الهوامش في براتين التمييز والإستثناء.
جل الأموال المقترضة تصرف على المغرب النافع في منشآت ضخمة وتظاهرات عالمية لتلميع صورة المغرب خارجيا، وتسويقه كأفضل بلد في العالم، وهو كذلك في قلوبنا بدون حاجة لصباغة مزيفة.
وتبقى أحوال المغرب الغير النافع وصور الساكنة المحرومة مصدر يتسول به لذى الصناديق المانحة، وطعمة سياحية لإصطياد الزوار الحالمين بالعودة للعصور الغابرة ولمن أراد أن يعيش تجربة زمان الندرة والبساطة.
المسافر عبر ربوع الوطن سيلاحظ تغير الأجواء وأحوال الساكنة للأسوء كلما إتجه نحو الجنوب وكلما صعد جبال الأطلس وتوغل في منطقة سوس. الإرتسامات الأولى للزائر أن هناك حيف في توزيع الثروات والقروض الممنوحة على الجهات، وإهتمام مفرط بحواضر وسط البلد وشواطئه وسهوله، أي المغرب النافع؛ مقابل تجاهل ممنهج للبوادي وقرى أعالي الجبال، المغرب الغير النافع.
كلما توغل الزائر نحو قرى الجنوب وأعالي جبال الأطلس كلما أصبحت مظاهر الفقر والإقصاء بادية بالعين المجردة على البقاع والساكنة، والإهمال على مرافق القرى إلا من رحمته بعض تضحيات المغتربين وجود الفاعلين الإقتصاديين المنحدرين من أعالي الجبال، وفتات الإلتفاتات الرسمية. سوس بحاجة لجبر الضرر وجبر خواطر قاطنيها، لرد الإعتبار لتضحية أهاليها وإقرار توزيع لثرواث البلد بشكل أكثر عدلا وإنصافا وتضامنا بين الجهات.
في أعالي جبال الأطلس توقفت عقارب ساعة التنمية في القرن الماضي، فالزائر لمركز أيت عبد الله مثلا، سيلاحظ أن المكان خارج الزمن ولم يتغير في محيطه الكثير منذ فجر الإستقلال، لحيف التقسيم الإداري وشساعة إقليم تارودانت، ولقلة ذات اليد الوصية، وضعف الميزانيات المرصودة لتنمية القرى النائية.
فخارج حركية يوم سوقه الأسبوعي يظل المركز شبيه بأستوديوهات تصوير أفلام رعاة البقر المهجورة حيث الرياح تتلاعب بأشلاء النباتات الشوكية، هذا التشبيه السريالي حرقة على حال المكان، وليس تقليلا من وضعه الإعتباري في قلوب أهل البلدة. وعلى العموم منطقة سوس وبواديها يصلها فتات القروض بعد تسمين السهول والحواضر المركزية النافذة.
كلما توغلت نحو المغرب العميق كلما سافرت ورجعت للوراء عبر الزمان وتعمقت في درجات التهميش. وبالمقابل وبشكل نوستالجي تمتعت بطيبوبة الساكنة المغلوبة على أمرها، وبنية البراءة وكرم صادق شبه مفقود بالحواضر.
السؤال إلى متى يظل نصيب المناطق النائية هزيل من حق التنمية وتحسين ظروف العيش وتمكين الساكنة بعمق سوس ومن قروض أزيد من 2 مليار دولار من مصدر واحد؟ قرض سنظل نؤدي أقساطه بالحواضر والجبال على مر الأجيال؟
الجواب بكل بساطة عالق عند مدبري الشأن العام، ومسؤولي المناصب العليا، أصحاب رابطات العنق، وسيارات الخدمة وبنزين المصلحة، وتعويضات المسؤلية والفيلات الفخمة. بعبارة أخرى، ناهبي المال العام، سواء منهم القابعين في السجون، او المنتظرين دورهم هنا أو هناك.
بإختصار، وبخاطر منكسر، ما مكانة حب الوطن في قلوب المسؤولين؟ للأوطان خونة من ضعاف النفوس، حين تختزل معنى الوطن في مال جيبك، وتحتل مصلحة الوطن أسفل الدرجات من أولوياتك، فصلي صلاة الغائب على الروح الوطنية. صدق الثائر العالمي تشي غيفارا حين قال: “إذا إستطعت أن تقنع الذباب أن الزهور أفضل من القمامة، يمكنك أن تقنع الخونة أن الوطن أغلى من المال.”
محمد القاضي رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله.
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News
محمد السادس يغرق بلاد في ديون يحمي لصوص أمثاله
Ghds Meryd https://t.me/+t-Z0NfjSBEg4ZTg0