الثقافة

تراث كناوة..خرج من رحم معاناة العبودية إلى فن للسلام و التسامح

يجمع التراث المغربي إرثا موسيقيا ضخما مختلف المشارب ، إرث يعكس غنى الخارطة الموسيقية بالمملكة وفنونها الشعبية .
فمن الموسيقى الأندلسية ، إلى الطرب الغرناطي، ثم طرب الملحون، وفن المديح والسماع، وصولا إلى موسيقى عيساوة، والفن الحمدوشي، وفن أحواش، وفن أحيدوس، والدقة المراكشية، والعيطة الجبلية أو الطقطوقة الحبلية ، وفن العيطة ، دون أن نغفل الموسيقى الحسانية النابعة من عمق الصحراء المغربية وأرض البيضان ، إلى أن يستقر بنا هذا التنوع الغني بفن ” كناوة ” الضارب في العمق الإفريقي …
إنها أشكال فنية ، شكلت فسيفساء وإبداعيا متمازجا هو نتاج متأصل للإبداع مغربي متميز عبر التاريخ .
ونبشا عزيزي المتلقي في أصول فن كناوة ، فإن ربط هذا الفن بجغرافية للقارة الإفرقية يحيلنا الى المكان الذي ينحدر منه كناوة ،وكما يطلق عليه في الأمازيغية بإسمكان أو إسمخان والتي تعني العبيد أو السود ، إلى الجذور الأولى لمعظم الكناويين، والتي حددت في بلاد السودان الغربي والتي كانت تضم آنذاك السينغال ومالي والنيجر وغينيا.
لقد أفاد بعض المؤرخين ومن بينهم الحسن الوزان ، بأن تسمية كناوة تعود “لمملكة يسميها التجار الأفارقة “كناوة” ، والأهليون “جيني”، ويطلق عليها البرتغاليون ومن لهم خبرة بهذه المناطق “غينيا.” ، وهو ذات ماذهب إليه المؤرخ الأندلسي محمد بن أبي بكر الزهري، الذي أورد بأن الرقيق كان يجلب من بلاد كناوة إلى المغرب والمشرق والأندلس.
كما جاء في المعجم الضخم ” تكملة المعاجم العربية ”، للمستشرق الهولندي “رينهارت دوزي، أن كلمة كناوة “غينيا”، هي تلك الصناجات التي يستعملها الزنوج ، وهي عبارة عن صفائح حديدية تثبت في كل يد على حدا ويعزف بها لضبط الإيقاع ، وتسمى في الثقافة الشعبية المغربية “القراقب”.
ومن حيث التأصيل التاريخي لتجارة العبيد في شمال إفريقيا، نجد أنه خلال القرن السادس والسابع عشر جيء بالزنوج إلى المغرب من بلاد السودان كعبيد، إما للعمل في الأراضي ( مزارع قصب السكر ) في عهد المنصور الذهبي أو لحراسة السلطان (عبيد البخاري) في عهد مولاي إسماعيل لتقوية مؤسسة الجيش في بداية قيام الدولة العلوية الشريفة .
وعبر هذه المراحل التاريخية تشكلت وحدات سكانية بالعديد من المناطق القريبة من حركية تجارة العبيد بالمغرب والتي إستوطنها غالبية أحفاد من إقتيدوا من عبيد أو إسمكان.
وحسب العديد من الباحثين في مجال الثقافة الشعبية وفن كناوة فإن مدينة الصويرة تعتبر المدينة الأم للكناويين والتي يوجد بها أكبر مزارات الكناويين بعد سيدي حساين و مولاي إبراهيم وشامهاروش ، ولالة ميمونة بإنزكان .
لقد إستطاعت عزيزي المتلقي ، موسيقى كناوة شق طريق شهرتها العالمية ، من خلال تأثيرها المباشر في عدة ألوان موسيقية و الإمتزاج بها ، ويظهر هذا التأثير في الموسيقى الشعبية المغربية من خلال وكمثال مجموعة “ناس الغيوان” ، في حين تجلى انتشارها العالمي في توظيفها ومزجها مع موسيقى الجاز والبلوز والريغي ، و نذكر على سبيل المثال لا الحصر ، تجربة جيمي هندريكس المغرم بمدينة الصويرة ومجموعة البينك فلويد و كارلوس سنتانا و غيرهم .
وتتكون فرقة “كناوة” من مغن رئيسي يطلق عليه مصطلح “لمعلم” ، والذي يتقن العزف على آلة “الكمبري”، وإلى جانبه باقي أعضاء الفرقة والذين يطلق عليهم “الكويو” ، وهم موسيقيون يقرعون الطبول و”الغانغا” و”القراقب”، ويرقصون على الإيقاعات بحركات خاصة و بلباس مميز .
لقدإرتبط اسم كناوة في المخيلة الشعبية الجماعية للمغاربة باستحضار الأرواح ، ومنح “البركة” لأولئك الذين عجز الطبيب عن مداواتهم” أو” الذين بهم مس من الجن ” ،فهم وعلى حد تعبيرهم “يقومون بالسبب والكمال لله “ ولأجل ذلك يقيمون ما يسمى “بالليلة” ، والتي تستلزم طقوس من قبيل البخور والشموع والذبيحة والرقص على أنغام الموسيقى والأهازيج فيما يسمى “الجذبة” بالدارجة المغربية إلى أن يصل المريض إلى حالة الإغماء، عندئذ يعتقد أن المريض شفي مما فيه.
وللمعلومة فقد تم تسجيل فن كناوة كتراث إنساني ضمن اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي، وذلك خلال اجتماعات الدورة 14 للجنة الحكومية الدولية لاتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لليونسكو٬ المنعقدة في بوكوطا عاصمة كولومبيا يوم 12 دجنبر 2019 ، وما هذا الاعتراف إلا حفاظ على ذاكرة هذا التراث الفني المغربي والتأريخ لمرجعية إفريقية وها نحن اليوم نشهد تسجيل شعر و فن الملحون أحد ابرز الفنون المغربية في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي ، يومه الأربعاء 6 دجنبر 2023، في إطار دورتها الـ18 المنعقدة بجمهورية بوتسوانا.
إنه إنتصار جديد للعديد من الانتصارات التي حققتها الديبلوماسية الثقافية المغربية دوليا بترافعها المستمر عن صيانة الإرث المغربي الأصيل وحماية روافده الفنية الغنية والتي تعتبر مكونا مرجعيا مهما من مكونات الهوية الثقافية المغربية العريقة.
وختاما لهذه القراءة المتواضعة لفن كناوة ، نؤكد أن العبيد الذين أستقدموا من بلاد السودان الغربي هم أصل موسيقى كناوة ومحدثيها فكان الفن الكناوي عامة يتجاوز مستوى العزف والرقص والتطبيل ، إنه فن في عمقه صرخة وجودية ، صرخة الرقيق الأفارقة الذين عانوا ويلات الاستعباد ، لتكون كناوة موسيقى خرجت من رحم المعاناة و العبودية ، و من بطن الحوت الذي ابتلع آمالهم …
ولتضل مع كل هذه المعاناة لونا فني وموسيقى شاهدة على مر التاريخ عن هذه المعاناة وقسوة الإنسان على أخيه الإنسان ، إنها بمثابة ثورة ضد العنصرية والإضطهاد والضلم بسبب العرق أو الجنس أو الدين ، إلى موسيقى للسلام والإخاء والمحبة يثوارتها الكناويون الى كل الإنسانية .
مداخلة ذ/ الحسين بكار السباعي في الندوة الثقافية لمهرجان إزوران كناوة باكادير
ممثل المنظمة الدولية للفنون الشعبية IOV التابعة لليونسكو
بالصحراء المغربية.
عضو مستشار للمنظمة العالمية لحماية الثرات بالمملكة المغربية .
          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى