بوتحانوت: مؤسسة الثقة السوسية في غرفة الإنعاش
- بقلم: امحمد القاضي * //
في أواخر أربعينيات القرن الماضي عرفت عدة جهات المملكة، مجاعة كان لها أثر قاسي على السكان؛ مما دفع بالعديد منهم للهجرة نحو المدن. من جملة هؤلاء، شباب من قرى جبال سوس، إستقر بهم الحال بعدة مدن، خاصة مدينة الدار البيضاء، ومارس أغلبهم تجارة القرب للمواد الغذائية وسط دكاكين صغيرة لأنها الأكثر طلبا وغير مكلفة تمويلا، وكونها تجارة لن تبور داخل الأحياء العتيقة.
تعتبر تبقالت إحدى أهم النقط التجارية الصغرى التي عمت كل أحياء الحواضر، ومركز تمويل للأسر بالمواد الغذائية من طلوع الشمس لآناء الليل، عبر كل ربوع الوطن. نجاح تجربة هذه الدكاكين راجع للعامل البشري وراء العملية التجارية.
مول الحانوت، كما يدعونه الزبناء، رجل عصامي ترك مسقط رأسه بقرى جبال الأطلس الصغير، وهاجر نحو الشمال بحثا عن رزق يضمن به كرامة عيش. هناك إجماع أن مهنة البقالة صعبة، وربحها جد ضئيل لن يزاولها سوى تاجر صبور، قنوع، متواضع، ويتحلى بالثقة، كل هذه الصفات أجتمعت في السوسي. هاته الخصال إكتسبها السوسي من ثقافته الأمازيغية أصلا، وغذاها بممارسته التجارية، وأصبحت رأسماله المعنوي قبل الرأسمال المادي الذي فتح به الدكان إقتراضا بضمان قيمة الكلمة والثقة الرائجة بين أهل تمازيرت.
كما أن “مول البيسري” بدكانه الصغير لعب دورا مهمة خلال فترة المقاومة ضد المستعمر. إذ آوى بعضهم المقاومين المبحوث عنهم داخل متاجرهم، كما وفر البعض الآخر للخلايا السرية المؤونة، ومنهم من زود المقاومة بالسلاح في منطقة سوس بجبال الأطلس الصغير الغربي، التي تعتبر آخر معقل يدخله الإستعمار الفرنسي بالمغرب سنة 1934 لشراسة المقاومة الجبلية بقيادة المجاهد الحاج عبد الله زكور بمنطقة أيت عبد الله، الذي خلد مقولته الشهيرة عندما أسره جيش المستعمر، وسأله القائد الفرنسي: “ما أنت فاعله الآن؟” فكان جوابه حكمة شجاعة: “إتما القرطاس، إتما ووال”، بمعنى: “نفدت الدخيرة، فإنتهى الكلام”. زواج البقالة بين التجارة وحب الوطن، والتشبت بالتوابث الوطنية.
جل البقالة بدأوا تجارتهم بدكان، عبارة عن محل تجاري يشتغلون فيه نهارا، ومسكن يأويهم ليلا. ولا يغادرونه سوى لأجل العودة لتمازيرت. بقعة عبارة عن سجن إرادي مفتوح، يصارع قاطنه من أجل البقاء، وخشية من لومة الفشل. البقالة تضحية، مع ذلك لم يسلموا في وقت من النعوت القدحية، “كالشلح الزقرام”، و”الكربوز” الشحيح وغيرها. لدرجة كان أبناء مول الحانوت يخجلون من أنفسهم، وأغلبهم لا يرضى التحدث بالأمازيغية علنا بالأماكن العامة خوفا من ‘وصمة العار’ التي تلاحق السوسي. ولكن أغلب المتمدرسين منهم كانوا متفوقين دراسيا. الإجتهاد في القسم ردة فعل ردوا بها الإعتبار لأصلهم، ونزعوا بها الإحترام لدويهم، وانتصروا على الحقد الإجتماعي المفروض على السوسي.
أنتجت هذه الحكرة والنعوت السلبية في ستينيات القرن الماضي، والإهمال الرسمي وعدم العناية بالثقافة البدوية السوسية، زمن إحتقار العنصر الأمازيغي، لغة، أصلا، وعرقا، وأرضا نفور إجتماعي لكل ما هو أمازيغي.
ولم يتبدد المكيال بهذه الصفات إلا بعد تصالح المغاربة مع ذواتهم، نتيجة نضالات الحركة الأمازيغية التي توجت بالإعتراف الرسمي بالمكون الأمازيغي كرافد من دعائم الوجود المغربي ومكون عريق أغنى الثقافة المغربية، وأصبحت الأمازيغية دستوريا لغة رسمية بجانب العربية.
كما أن تعاطف جل المغاربة مع مول الحانوت، بعد شعورهم بالأزمة الإقتصادية، وشح الموارد المالية للأسر، وقلة فرص الشغل، وغلاء المعيشة. سهل فهم الجميع، بعد طول عشرة وبفضل التوعية والإنفتاح على الثقافة الأمازيغية، وزيارات سكان المدن لمناطق سوس، أن الأمازيغ نمودج للجود والكرم. وعلم سكان الحواضر أن البقال لم تكن طباعه البخل وخصاله الشح، بل كانت عائداته الربحية هزيلة، وكان يملك عن فطرة فن تدبير الندرة، ويحمل عن وعي هم تنمية قريته بتمازيرت المهمشة من الجهات الرسمية.
بعض الممارسات الرمضانية المروجة إعلاميا، خاصة نزول السلطات المحلية مرفوقة بكامرات وسائل الإعلام المرئية لمراقبة الأسعار وجودة المواد عند مول الحانوت، رغم أهمية العملية، إلا أنها نوع من تكريس للحكرة وترويج عكسي عن غير قصد يخدم الأسواق التجارية الكبرى التي لا تشملها عادة هذه المراقبة.
تجارة البقالة بناء لإقتصاد القرب، قل نظيره في البلدان الأخرى، لدرجة صدر السوسيون المهاجرين بأوروبا التجربة لفرنسا مثلا، وشكلوا بها قوة إقتصادية ومصدر مهم من العملة الصعبة أغنى بها مغاربة العالم عائدات خزينة الدولة في وقت لم تتطور صادرات المغرب الفلاحية، ولم تتقدم الإمكانيات السياحية بعد.
أهمية بوتحانوت كإبداع تجاري، جعل جون واتربوري، الباحث الأتروبولوجي الأمريكي الذي خاض غمار تاريخ المغرب بكتاباته المتميزة، في مؤلفه سنة 1972 “الهجرة إلى الشمال: سيرة تاجر أمازيغي”، حيث رصد التحولات السوسيوسياسية لمغرب القرن العشرين ودور إبودرارن في بناء تجارة القرب داخل الأحياء. الكتاب عبارة عن مونوغرافية تتبع فيها المؤلف رحلة الحاج عابد السوسي الذي هاجر من منطقة تافراوت ليستقر به المقام كبقال بالدارالبيضاء، وليؤسس فيما بعد لأكبر مقاولة تجارية بالبلاد.
السوسيون البقالة الأوائل إنطلقوا من بوادي الأطلس الصغير النائية، كتجار مبتدئين برأسمال مادي جد متواضع، ورأسمال لامادي وقيم إنسانية قوية، مناضلون عصاميون تابروا وكدوا، بعضهم وسع نشاطه ونجح في تأسيس مؤسسات تنافسية وعلامات تجارية عالمية كبرى، غزت منتوجاتها أسواق القارات الخمس.
أغلبهم كون رأسمال محترم، إستطاع به شراء محلات التجارة بالجملة من معمرين ويهود مغاربة بدؤوا يصفون تجارتهم وتركتهم تمهيدا للهجرة والعودة نحو بلدانهم.
أغلبهم فوت تجارته بأثمان رمزية تقديرا لإخلاص ووفاء أهل سوس في العمل. ويمكن ذكر على سبيل المثال لا الحصر، مولاي مسعود الذي إستقر بمكناس من قبيلة إداكنيضيف، صاحب علامة زيت باب منصور، وبالحسن من قبيلة أيت عبد الله، صاحب زيوت واد سوس، وعائلة أسطايب، مالك قهاوي الصحراء وماركة أسطا من نفس القبلية، إضافة للحاج حسن مول أتاي، والحاج أمزيل مالك صباغة الأطلس من منطقة أملن، تفراوت.
وأسماء أخرى في عالم التجارة لن تتسع المساحة لذكرهم جميعا. للمزيد من الأسماء يمكن الرجوع لكتاب عمر أمرير: “السوسيون العصاميون في الدار البيضاء” الذي يسرد لسيرات المؤسسيين الأوائل للمقاولات الوطنية الكبرى التي عززت خريطة إقتصاد المملكة.
الجميل في العملية، أن معظم هؤلاء الفاعلين الإقتصاديين لم يتنكروا لأصولهم السوسية، وظلوا مرتبطين وجدانيا وعاطفيا بتمازيرت، ومولوا جل المشاريع التنموية بقرى سوس، لرد الجميل والعرفان لأرض تأوي أهلهم المستضعفين.
على كل حال، تجارة القرب فن وصنعة وثقافة وتضحية وخدمات مجانية للجيران، إنها ماركة مسجلة لأهل سوس. بوتحانوت صديق الدرب، كاتم أسرار الأسر، الحافظ على الأمانات، صندوق إقتراض يسد حاجيات الجيران عند الحاجة. لكن للأسف، خانتها الجهات الوصية على القطاع، ولم تؤدي الغرف التجارية دورها في صون كرامة التاجر الصغير وتطوير الحرفة.
تبقالت بدأت تنقرض، نظرا للركود الإقتصادي، وعوامل أخرى جانبية منها هجوم الفراشة، وإنتشار الموزعين الغير معتمدين وعشوائية التجارة الغير نظامية. لكن أهم عامل أثر على تجارة القرب هو غزو الأسواق الكبرى أحزمة المدن، وتغلغل الأسواق الصغرى التابعة لها داخل الأحياء، والسماح بدخول ميني مارشي أجنبية، خاصة التركية بتسهيلات مغرية بجوار من مول الحانوت. ذلك بدون تأهيل تبقالت، وبدون حماية الماركة الوطنية، وفي إنعدام فرص تنمية الحرفة المغربية المثوارثة. تخل القطاع الوصي على مول الحانوت رغم كثافة عددهم، ليقاوم من أجل الإستمرار وسط سوق تحكمه تنافسية غير شريفة.
الحقيقة أن المتاجر الكبرى والماركت الصغرى إستغلت حرفة مول الحانوت داخل الأحياء، وقطفت تمار صناعة وتجربة راكمها السوسيون ليقدموا للزبائن الجدد أثمنة سلع مغرية في تنافس وحشي قد يقتل تجارة أقرب للمغاربة من الحملات التشهيرية والوصلات الترويجية الخادعة للأسواق الكبرى.
خلاصة القول، المهنة مهددة بالكساد، والقدرة الشرائية للمغاربة يصعب أن تواكب إغراءات المتاجر الكبرى، وعدم تأهيل مول الحانوت ليلعب دوره الإجتماعي المعتاد كصمام أمان للأسر داخل الأحياء، أكثر منه الدور التجاري الصرف الذي تلعبه الأسواق بشراسة وخدعة تسويقية، ينذر بزوال حرفة بسبب الإهمال واللامبالات من الجهات الوصية، وتهدد بخروج مول الحانوت بخفي حنين وبصفة مغتصبة من تجربة راكمها السوسيون وضحوا من أجل إستمرارها لعقود من الزمن.
بوتحانوت يستحق تخليد تضحيته في يوم وطني كإعترافا شعبيا ورسميا بحسه الوطني الصادق وبدوره النمودحي في تعزيز التماسك الإجتماعي عبر ربوع الوطن.
إلى ذلك الحين، تبقى علامة “الطلق ممنوع والرزق على الله” عالقة على رفوف البقالة.
- *رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News