
بخصوص الكتابة
- بقلم عبدالرحمان بلعياشي //
الكتابة. كلمة عظيمة ومفهوم كبير ومساحة لا نهاية لها. الكتابة تمرين وتدريب واعتكاف واختبار. الكتابة نضج واستيعاب واستيفاء. الكتابة تتأتى إن توفرت الملكة والموهبة والميول، ممزوجة كلها بحب وشغف وولع وصبر ونفس ومثابرة. الكتابة ممكنة لكن فقط بعد تراكم، تراكم يكسبنا، ليس فقط مهارات القراءة والفهم والتأويل، لكن أيضا الرغبة في إعادة إنتاج ما نطالعه، في نوع من المحاكاة والتقليد. عندما نصل إلى هذا المستوى في التفكير، نكون قد قطعنا أشواطا مهمة نحو الكتابة والتدوين، فيسكننا همها حد الهوس، ويرافقنا أينما حللنا وارتحلنا. ويحفزنا، ويدفعنا، بل ويرغمنا عليها.
والكتابة لها ارتباط وثيق بالذاكرة، إذ هي التي تملي ما يجب أن يكتب وما لا يجب، وفق آليات جد مضبوطة، تبعا لنية مسبقة. إذ لا وجود لكتابة عفوية، أي خالية من القصدية، حتى عندما نعتقد ذلك أو نريدها فعلا أن تكون كذلك. الكتابة تتصل مباشرة بوعي صاحبها وبلا وعيه أيضا. قد تعتبر عفوية من حيث سلاستها واسترسالها، وسهولة الكتابة وتدفقها عند البعض، لكنها مع ذلك وبدون وعي أو قصد، تبقى موجهة، على الأقل من الناحية اللغوية حيث يتم انتقاء الكلمات بعناية فائقة وبنية مسبقة.
هذا بالطبع لا ينزع عنها صفة المتعة والإستمتاع والإمتاع. الرغبة في الكتابة تولد المتعة عند كاتبها، فيستمتع قبلها وأثناءها وبعدها، ويمتع بهذا الفعل، القارئ الافتراضي. غير أن الكاتب هو أول قارئ لما يكتبه، وبالتالي فهو يستمتع وهو يكتب، ويمتع نفسه عندما يتربع على مكان القارئ، ذلك أنه يكتب لنفسه أولا وقبل كل شيء. الكتابة هي الذاكرة نفسها، هي من تنقذها من النسيان والإندثار والضياع. الكتابة تحفظها وتحافظ عليها. وتضمن لها الاستمرارية والخلود، خاصة فيما يرتبط بنقلها للأجيال القادمة. الكتابة تساهم في ترميم الذاكرة والتعريف بها وتثمينها.
غير أن الكتابة لابد لها وأن تنبع من قناعة ورغبة وحاجة، سيما إذا كانت من أجل البوح. الكتابة إعلان ومكاشفة. هي إفشاء وفضح. هي قرار وفعل. هي أمر وتنفيذ. هي إخراج ونقش. هي انتفاضة وثورة. هي زوبعة وعاصفة. هي أمواج تتلاطم مع بعضها في مساحة الورق. الكتابة خلق وإبداع وخيال.
هي همسات تبحث لها عن جسد في أحرف وكلمات وجمل. في الكتابة نفرغ كل ما لم يعد يحتمل المكوث بالدواخل والاستمرار في طي الكتمان. الكتابة هي نقيض الكتمان والأسرار والتستر. وهي في صراع دائم ومفتوح معها. تتفاوض معها باستمرار فتفشي منها ما تسمح لها به، في مراعاة لاعتبارات محددة.
أولها وأهمها، وربما أقساها، تتجلى في الرقابة، ذاتية كانت أم موضوعية. الرقابة هذا المصطلح الرهيب هو عدو الكتابة بامتياز، لا يحد فقط من فعل الكتابة ومن حريتها في تناول كل الموضوعات بالأريحية المرجوة، لكنها تقمعها، أي الكتابة، وتنسف من مهدها تلك القوة الجامحة الكامنة في أعماقها والتي كانت السبب في نية الإقبال على الكتابة والتدوين. الرقابة من هذا المنظور تتحول إلى كابوس يؤرق الكتابة.
غير أن هذه الأخيرة لا تستسلم، فتراها تبحث وتناور في كل الاتجاهات لتراوغ إملاءات الرقابة عليها وما تفرضه من تلقاء نفسها ومن جانب واحد، من قيود وأغلال وضغوطات، تحت يافطة وزاع شتى، تتأرجح ما بين الديني والأخلاقي والثقافي والإجتماعي، وغيرها.
الكتابة لها أساليبها وتقنياتها. لديها القدرة على التكيف مع جميع الوضعيات والظروف، عملا بالمقولة الشهيرة “لكل حادث، حديث”، أو “لكل مقام، مقال”. وهذا بالطبع ما يمنحها هامشا واسعا وفسيحا للتصرف. الكتابة لا تعرف المستحيل. بإمكانها تحقيق المعجزات. لديها طرقها الخاصة بها لبلوغ أهدافها وإيصال رسائلها. تتفادى إذن المواجهة مع الرقابة أو استفزازها مباشرة.
الكتابة فن قبل كل شيء، وهي بذلك تنوع من آلياتها المباشرة وغير المباشرة تبعا للسياقات، وتتفنن في ذلك وتبدع فيه. تستعمل الرموز والشيفرات للمراوغة، فتفرض هيبتها وشخصيتها. ولا يركب مركبها من لا يتقنون استعمال أدواتها، أو ليست لديهم قدرات لكي يجددوا فيها. لديها هي أيضا متطلبات وشروط، على مستعمليها أن يبرهنوا على توفرهم عليها، وإلا مكتوا في عتباتها وخارج دائرتها. والكتابة مستويات وتنوع وتعدد.
الكتابة تصنع الشخصية وتنمح الكاريزما وتفرض الاحترام والقراءة. الكتابة هوية وانتماء. الكتابة طبقات وتمييز وتميز. الكتابة تصغي للجميع وتستجيب لكل المتطلبات، فهي ترضي الجميع وتضع إمكاناتها تحت تصرف الجميع. فتخوض في جميع الموضوعات وتعالج قضايا شتى وتتولى التعبير عن الأحاسيس والمشاعر مهما تنوعت وتعددت وتفرعت وتشابكت وتعقدت.
الكتابة متعددة الأصوات. الكتابة مساحة للعرض والشرح والتفسير والتنوير والتوضيح. الكتابة إحساس وشعور وتفاعل وتجاوب واستجابة ورد. الكتابة وسيط بين الذات والموضوع، رسول بين الذات والآخر في علاقتهما بالأشياء وبالواقع.
الكتابة تحقق الحرية. الكتابة تحرر العقول والذوات والنفوس. تطلق العنان للخيال دون الاكتراث إلى الحدود اللغوية والأسلوبية، دون أن تعير أي اهتمام للعجز والقصور والمعيقات. الخيال يكسرها ويخترقها، ليصل إلى الأعماق وينقل الوشائج والأحاسيس والأفكار والآراء من منبعها بكل صدق وتلقائية. الكتابة صدق وعفوية وارتجال واسترسال.
الصدقية شرط به تتحقق باقي الشروط وتزول العراقيل وتهون الصعوبات. والكتابة مواقف. تظهرها وتفصح عنها وتخرجها للعلن دون خوف أو حرج. الكتابة شجاعة وتحدي. الكتابة فحص وتمحيص وتحليل ونقد وانتقاد. الكتابة قلق واضطراب، تحمل الهموم الخاصة والعامة. الكتابة ارتداد واهتزاز وارتجاف. الكتابة نضال يتطلب الجهد والاستمرارية والمواظبة والمواكبة.
الكتابة انخراط والتزام ووفاء وعهد وتعهد. الكتابة جذب وسحر واستمالة وإقناع. بعدها الكتابة راحة تحقق السلم الداخلي والسكينة والهدوء. الكتابة رضا عن النفس، تحقق الطمأنينة، بعد رحلة شاقة محفوفة بالمغامرات والمخاطر والمجازفات والهموم والتحديات. الكتابة دواء وشفاء وعلاج وبلسم.

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News