بحثا عن كل شيء وعن لا شيء
- عبد الرحمان بلعياشي //
يقضي الإنسان كامل عمره وهو يلهث وراء أشياء كثيرة ومتنوعة، بعضها محدد المعالم، وبعضها الآخر غامض المعالم أو في تغير دائم ومستمر.
المعالم تتغير بتغير الزمان والمكان، وبتقدم الإنسان في السن وخوضه غمار تجارب حياتية جديدة تمنحه نضجا وافرا ووعيا مغايرا وزائدا عما عاشه في السابق.
هذا البحث الذي يسعى إليه بدون توقف، يكون، بدون شك، وراء طبيعة الحياة التي يحياها في هذه الدنيا.
هناك من يربط هذا البحث الحثيث بأمور الدنيا، وهناك من يربطه في وقت من الأوقات بأمور الآخرة، وهناك من يمزج بين الإثنين سعيا منه نيل الدارين، دار الفناء ودار البقاء.
وفي كل الحالات فإن هذا البحث في الاتجاهات الثلاثة يرهن حياة الإنسان ويوقعها في فخ يصعب التخلص منه بسهولة أو بدون آثار جانبية، فيلحق بها أضرارا، يصعب جبرها، بحرمانها من خيارات كثيرة، ظرفية كانت أم غير ظرفية، قد لا تندرج في إحدى الخانات المشار إليها أعلاه بالضرورة أو بشكل مباشر أو واضح.
الحياة مليئة بمستجدات ومفاجآت لا نملك دائما الوقت الكافي لنتبين كيفية التعامل معها بالبداهة اللازمة أو بردة فعل مناسبة.
لكن الإنسان سيظل يبحث ويبحث ويجري ويركض ويلاحق ويحارب، وسيظل يواصل طموحه في البحث مادام حيا، لأن هذا قدره منذ أن وجد على بسيطة هذا الكون.
لن يتوقف أبدا عن البحث إلى أن يرحل عن هذه الدنيا، لأن البحث لا يشكل هدفاً في حد ذاته، بل ما هو إلا وسيلة لنيل أغراض وبلوغ أهداف يحددها كل إنسان في مسار حياته، طوعا أو كرها، حسب حاجياته ومتطلباته العاجلة أو الآجلة. هي تختلف وتتغير من شخص لآخر وهي إضافة إلى هذا غير نهائية أو قطعية.
هذا البحث هو نفسه الذي يضفي على الحياة طابعا إيجابيا ويمنحها نكهتها ويعلل سبب وجودها. هذا البحث هو نفسه الذي يفتح آفاقا جديدة أمامها عندما توصد كل الأبواب ونكون على وشك ركوب سفينة اليأس الذي لا يمكن أن نحسب عواقبه.
هذا البحث هو نفسه الذي يفتح آفاقا قد تأخذ الحياة في منحى آخر، وترشدها نحو سبل جديدة وتقودها نحو مسارات أصيلة لم تكن لتخطر على بال أحد لو لم يتم سلك هذا الطريق.
هناك إذن ألف مبرر يقدمه كل واحد منا في بحثه أو أبحاثه المستمرة والتي يبدو أن لا نهاية لها، لذا يشكل بلوغ هدف ما أساسا للمضي في بحث جديد يكون أكبر أو أفضل من السابق.
ويبدو أن القاسم المشترك بين بني البشر في أبحاثهم هذه في نهاية المطاف هو الحياة نفسها، هو أن يعيشونها بأريحية معينة، خاصة في جانبها المادي والذي يغذي بالضرورة الجانب النفسي ويبقي عليه عاليا. كما أنه في الغالب يعتبر علامة على أن الإنسان يواجه تحديات يومية ولا مناص من التغلب عليها في نوع من فرض سيطرته وهيمنته التي لا تقهر، على نفسه أولا، وعلى محيطه البشري والطبيعي، ثانياً.
السعي يختلف من شخص لآخر ويتنوع حسب الزمان والمكان. هناك متطلبات أكثر من أخرى هنا أو هناك وهناك احتياجات أهم من أخرى هنا أو هناك. هناك من يسعى لأن ينجح بكل الوسائل فيما يجتازه من امتحانات واختبارات، وهناك من يجري وراء تحقيق نجاح أو تقدم أو أن يجني امتيازا من نوع ما في عمله أو في منصبه أو في مرتبته العلمية أو في مكانته الاجتماعية والمجتمعية.
وهناك من جهة أخرى من يركض وراء تحقيق أرباح أو مكاسب مادية ويسخر لذلك من الوسائل ما يعتبرها كفيلة للوصول إليها ، ولا يهم كثيرا إن كانت مشروعة أو غير مشروعة. ونجد أيضا فئة همها تحقيق ملذات ولذات الحياة، ولذلك فهي لا تكترث لما وراءها و لا لما أمامها من اعتبارات أخلاقية أو اجتماعية أو ثقافية أو دينية.
في المقابل هناك اشخاص متفانون في عملهم يسعون قدر المستطاع إلى القيام بما يفرضه عليهم ضميرهم من أجل مساعدة غيرهم والإخلاص في عملهم، ولا يبالون بما قد يتعرضون له من إغراءات مادية أو من مضايقات من محيطهم الذي لا يروق له تصرفهم هذا لأنه يكشف علنا عن عيوبهم، أشخاص لا تتبدل مواقفهم ولا تتغير قيد أنملة مهما حصل.
أشخاص يحركم وازع ما، قد يكون أخلاقيا أو دينيا أو ثقافيا، أو أن ضمائرهم حية ومقاومة لتقلبات ونزوات والتي تأتيهم من كل حدب وصوب.
أشخاص أصبحت اعدادهم مع الأسف في تناقص واصبحوا بذلك عملة نادرة، وأصبحت الأغلبية تنعتهم بنعوت وأوصاف تنم عن أن موازين المجتمع أصبحت مقلوبة، ولم تعد تتحكم فيها نفس الآليات الأخلاقية والثقافية والدينية كما عهدنا في الماضي، علما أن الجميع اليوم يتغنى بها ويتخذها شعارا يعلن عنه جهارا نهارا وفي كل المواقع والمنابر المتاحة اليوم، وما أكثرها، غير أنه في الخفاء والسر يتبني سلوكات وتصرفات منافية ومتناقضة تماما مع الشعارات المرفوعة أمام المجتمع.
كما نجد فئات أخرى تعيش في الهامش، لكنها لا تتوقف بدورها عن البحث في كل الاتجاهات، ولو في الأحلام، عن تسطير أهداف وأوهام تفوق الواقع والخيال، كمن يبني قصورا من الرمال على الشاطئ في فصل صيف حار وساخن.
وهناك من يسعى لبيعها للآخر مستغلا سذاجته أو ضعفه في لحظة ما، ويقع ضحية وضعه وعندما يسترجع وعيه، يجد أن الوقت قد فات.
ويغفل الجميع، وسط هذا البحث والركض والسعي والجري اللامتناهي، عن البحث عما هو أهم. ينسى الجميع أن البحث في الذات هو المفتاح الرئيسي لبلوغ كل الأهداف الأخرى.
نكون في ركوضنا وراء مآرب مادية قد تبعدنا عن ذواتنا وتحدث قطيعة بيننا وبين أنفسنا، فلا نجد الوقت والفرصة أبدا للتحاور معها والتحدث إليها والإنصات لشكاويها وانشغالاتها وهمومها.
فنفوت الفرصة أمامنا إذن للمصارحة والمصالحة مع الذات لنعبد الطريق أمامنا نحو غذ أفضل ومستقبل واعد.
إذ لا يمكن أن نتقدم ونبحث ونسعى إن لم نتصالح مع ذواتنا أولا، آنذاك ستزول العراقيل وتذوب الحواجز سنعرف بالواضح عما نبحث عنه بالضبط، وسنمضي نحوه بتبات ويقين، وسنركز أكثر عن كينونة الأشياء وماهية الأمور ونتخلص من جزيئات وتفاصيل لا قيمة لها، كانت فيما سبق وراء سعي متعب وغير مثمر و لا مفيد.
آنذاك فقط سيكف كل منا عن البحث عن كل شيء وعن لا شيء.
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News