الثقافةالرأي

انتهاك “المثقف – المؤثر” للقيم الروحية هو تسويق المجتمع الى الفراغ الروحي

  • ذ. محمد بادرة//

منذ مدة طويلة احتد النقاش حول العلاقة الجدلية بين الدين والثقافة خصوصا وان هذين المصطلحين التعريفيين يختلفان في المعنى وفي الرؤية الأبستمولوجية لهما ضمن نظرية الوجود. والمواقف ازاء ذلك تختلف وتتعارض عند فئة من الكتاب والمفكرين العلمانيين  كما انها تأتلف وتتكامل عند كتاب ومفكرين ذوي النزعة الانسانية، فريق منهم يرى اننا امام مجالين معرفيين مختلفين بالكلية من حيث المحتوى والمنهج والاداة والاستراتيجية اقله ان الدين يتعلق بنصوص منزلة وحقائق مطلقة فيما الثقافة هي ما يصل اليه الانسان في تأمله وتفكيره للعالم المحيط به اما الفريق الثاني فيؤكد وجود تقاطعات مشتركة بين المجالين ويعتبر ان كلا من الدين والثقافة يستجيبان لحاجة الانسان.

فما هي النقاط المشتركة بين الدين والثقافة ؟ وفيما تتفاوت قدرتهما في التأثير على الحياة الاجتماعية والثقافية والوجودية للإنسان ؟

ان الدين او مفهوم الدين عند بعض المفكرين العلمانيين هو مفهوم ملتبس لأنه في اعتقادهم لا يستطيع “التكيف” مع التحديث وغايتهم في ذلك التقليل او الحط من اهمية الدين في تسيير وتدبير حياة الامم والشعوب ويبقى السؤال الذي يستحضر في هذا الشأن هو كيف تمكن “صناع” الثقافة والحضارة من تشكيل السياسات الاجتماعية ونمذجة العقول على افكار علمانية وقوانين مثبتة بعيدا عن الدين؟

ان العديد من رواد الفكر واللغة والفلسفة في الغرب (خاصة) يؤكدون ان هناك ترادفا بين الدين والثقافة بحيث يصبح الدين ثقافة والثقافة دينا.. وهذا الاتجاه يمكن ملامسته عند  توماس اليوت الذي قال (قد لا يؤمن فرد اوربي بان الايمان المسيحي حق، ولكن ما يقوله ويصنعه ويأتيه ..

كله من تراثه في الثقافة المسيحية ويعتمد في معناه على تلك الثقافة) واظهر اليوت قدرة الدين في تكوين ثقافة سوية وحقيقية دون تزييف، كما اظهر تطابق الدين والثقافة كعنصر اساسي في بناء الهوية الثقافية والشخصية الجماعية بل يعتقد ان الدين هو المصدر الاساسي للقيم والاخلاقيات التي تشكل الثقافة وان فقدان الاتصال بالدين يؤدي الى ازمة ثقافية ومعنوية وهذا الموقف المتداخل بين الدين والثقافة يمكن استظهاره في اعماله الشعرية والنقدية.

وفي عالمنا العربي هناك الكثير من المفكرين الذين ربطوا بين الدين والثقافة وفصلوا بين الدين والتدين والفكر الديني ..الخ وكان من ابرزهم واكثرهم جرأة واجتهادا الدكتور طه عبد الرحمان الذي انتقد اعتقادا مفاده ان الدين ينفصل عن الثقافة بدعوى ان الاول امر خصوصي بينما الثاني امر عمومي والحال ان هذا الاعتقاد ينبني على مسلمات مستخلصة من تجربة الغرب التاريخية مع الدين بمقتضى انه لا حقيقة في الدين لان الدين خرافة وانه لا تمايز بين الاديان وانه لا عموم في الدين ويعني انه شان خاص.

لكن د. طه عبد الرحمان ابرز دور المثقف من منظور ائتماني اي المثقف “المرابط” حسب اصطلاح الكاتب لأنه مطالب بان يصل القيم الاخلاقية عبر المساهمة في فتح باب الدين حتى يكون مجالا لتحقق كمال المؤانسة والمعالمة.

ومن مهام وخصائص المثقف “المرابط” انه يؤسس الثقافة على الدين بمقتضى ميثاق الامانة اي ائتمان الانسان على القيم المشتركة بين الدين تشريعا والانسان فطرة وبالنتيجة لا يصبح الاصل في الثقافة ان تكون انتاجا قوميا او انتاجا محليا وانما ان تكون انتاجا انسانيا وعالميا وحينها يفتح المثقف “المرابط” الثقافة على افاق تتعدى المجتمع الواحد الى غيره من المجتمعات.

وبخصوص تفاعل المثقف “المرابط” مع تحدي الفتنة بين الاخوة في الدم او اللغة او التاريخ او المصير المشترك  فيقتضي ذلك حسب طه عبد الرحمان التصدي لفاسد الافكار اي التصدي لأولئك الذين يبررون او يشعلون الفتنة بين اخوة الدين والوطن او يروجون له او يشجعون عليه وهم الفئة المنسلخة من المثقفين.

واستعرض الكاتب مواقف المثقفين من هذه الفتنة، فهذا (يميني لا يستكين، وهذا يساري لا يلين، وهذا “اصولاني” مشدود الى ماضيه، وذاك “فكراني” متطلع الى ماضي غيره… بل نجد ان “الاصولانية” اصولانيات اصلاحية وسلفية وجهادية و”الفكرانية” فكرانيات ليبيرالية واشتراكية وقومية ولما كان تكوينهم الثقافي بهذا التشتت الفاحش لزم ان تكون مواقفهم من الفتنة هي كذلك شتى…

فهناك المؤيدون للقتل او الفتنة باسم الدين وهناك المؤيدون للقتل او الفتنة باسم الدولة بحجة حفظ الامن والاستقرار وهناك الصامتون الذين بخشون ضياع مصالحهم وهناك الخائفون الذين توسوس لهم انفسهم ان الفتنة والقتل يترصدهم وبالتالي فان خيانة المثقف هي خيانة نفسه وخيانة غيره اي الذين يشاركونه عالمه الانساني وخيانة غيره الذي يشاركهم عوالمهم ..) ان المثقف عند  الكاتب لا يرابط في ثغر السياسة الا ليتجاوزها الى افق التخليق والاصل في الثقافة ان تكون انتاجا انسانيا وعالميا.

انه يفترض في المثقف ان يكون حاملا لعناصر المنظومة الاخلاقية والقيم الروحية وله رسالة في الرقي بمجتمعه وامته غير انه في السنوات الاخيرة برزت ظاهرة ثقافية جديدة تتمثل في ظهور “مؤثرين – مثقفين ” او هم اشباه المثقفين ينشرون المغالطات خصوصا فيما يتعلق بأمور الدين وشرائعه ويعملون على ترويج الاكاذيب والافكار الهدامة لمجتمعهم وامتهم بوعي منهم او بدون وعي، ولقد تسللوا الى المجتمع والى البيوت وعقول الصغار والكبار من ثقوب العالم الازرق ويعرفون باسم “المؤثرون الجدد” وهذا المصطلح الجديد الذي يروج له ما هو الا (مسحوق غسيل جديد تفوق على جميع المساحيق التي نعرفها اذ انه مختص بغسل الأدمغة، أدمغة الجيل الجديد جيل الالفية الثالثة الجيل الذي نشا مع تكنولوجيا جديدة تمارس سياسة الارض المحروقة على كل ما كنا نعرفه ) حتى صارت معه كل القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية         “تراند” وتحولت الآراء الى” LIKE” – منيرة جهاد الحجار.

وكما قال احد الشعراء المصريين وهو يسخر من هذه الثقافة ومن يروجونها (انها ثقافة من غبار ازرق .. وعليك ان تكون تافها حتى تكون موجودا !!!! )

انها ثقافة حرب وهدم وانسلاخ عن الوجود الانساني والروحي، انها حرب ناعمة تمارس سلطتها على كل المجالات لإلغاء الهوية وتفكيك الاسرة وضرب القيم الروحية والتشكيك في حقيقة الدين وتدمير القيم المجتمعية الاصيلة ويستخدم  هؤلاء ” المؤثرون – المثقفون ” خطابا يدعو الى التحلل من الاخلاق والنيل من الرموز الدينية متدرعين ومبشرين بأنوار الحداثة و ثمار المعاصرة و “نعمة” التحرر الفكري وهو خطاب ملتبس  يهدد القيم الاساسية التي تربط افراد المجتمع ببعضهم البعض مما يؤدي الى تآكل الهوية الدينية والثقافية واضعاف الانتماء الوطني.

انهم اشباه المثقفين يسعون الى التهوين من شان القيم الدينية الاسلامية دفاعا عن الحداثة عبر التهكم والسخرية على الفقهاء ورجال الدين ومؤلفاتهم ونصوصهم (البخاري مثالا)… انهم يتبنون خطابا يدعون من خلاله امتلاكهم المعرفة والحقيقة لكنه في الواقع يفتقرون الى المصداقية العلمية ولا يجيدون الا التلاعب بالعواطف واستغلال وسائل الاعلام الجديدة ومواقع التواصل الاجتماعي لنشر افكارهم دون تقديم ادلة علمية او الاستناد الى اسس معرفية راسخة وغايتهم البحث عن الشهرة السريعة وجني مكاسب شخصية ب ” التراندات ” و ” اللايكات ” .

ذ. محمد بادرة

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى