المسألة الثقافية مرة أخرى ودوما..
- بقلم الأستاذ الحسين فرحت*//
” نظم “مركز وادي سوس” ندوة تحت عنوان ” المدينة العتيقة، العمق التاريخي والعلاقات الاجتماعية وآفاق التثمين “يوم الثلاثاء 8 غشت 2023 بساحة اسايس – انزكان وتندرج في إطار فعاليات مهرجان ” المدينة العتيقة – تيسواك”.
سرتني كثيرا فكرة النشاط وفرادتها، وكذا فقراته المتنوعة والمتميزة، فهي بادرة جميلة وذات أهمية قصوى، وعظيمة الجدوى والأثر.. وأحببت – وإن تأخر الأمر بعض الشيء – أن أبدي بعض الملاحظات على هامش ما جاء في عروض الندوة من أفكار، لتعذر استكمالي حضور أشغالها لظروف خاصة، في السطور التالية:
1- أثارني عنوان الندوة وخاصة جزؤه الأخير ” آفاق التثمين “، لكونه يؤشر على تجاوز التناول الكلاسيكي والتقليدي لما هو تاريخي وتراثي، ويوميء إلى مقاربة تتغيى لفت الانتباه إلى ما بعد الحديث عن التاريخي والتراثي، باعتبارهما حالتين ستاتيكيتين جامدتين، أو ميتتين إن شئنا القول مجازيا، أو الانتقال من ما هو كائن إلى ما يجب أن يكون. بعبارة أخرى: إن “آفاق التثمين ” تذهب بنا إلى المستقبل، وتحررنا من التفكير الماضوي إلى التجديد والتحديث، إنها تخلصنا من الاكتفاء بالرواية والسرد، تصب اهتمامنا أكثر على الاشتغال على التنمية والتطوير..
وفي تقديري لن تكون للنشاط أي قيمة ما لم ينح هذا المنحى، ولن يكون له أي أثر أو عائد ما لم يأخذ هذا الاتجاه.. إنه سيكون – حين تنكبه لهذا المسلك – من قبيل التغني بالأمجاد، وسيقف على أعتاب إنجازات الأسلاف والأجداد، وسيقع أسير الاستذكار النوستالجي والحنين إلى الماضي والشوق لما كان ومات وفات، استجابة، فقط، لحاجة بسيكوليجية، وإرضاء لحالة وجدانية، أقصى ما تحققه هو الرفع من المعنويات الخاصة وانتفاش الذوات، ولا تقدم رؤية فكرية واجتماعية وثقافية جديدة لما يجب أن يكون علية الحال الآتي والوضع المستقبلي، بعيدا عن الرغبة في استنساخ وضع سابق، أو محاولة إعادة واسترجاع حالة مادية سالفة مثلما كانت عليه من قبل، كما لو أن التاريخ سيعيد نفسه كما يعتقد الكثيرون…
هذا الجانب مهم جدا التنصيص عليه في عنوان الندوة وشعار النشاط ككل، وتخصيص محاور له في الطرح والتداول والنقاش وصياغة الخلاصات والاقتراحات والتوصيات… وكذلك كان في الندوة، ونعم، فماذا بعد؟..
2- بين الانتلجنسيا والمنتخبين: نعود في هذه المناسبة – والمناسبة شرط – إلى التطرق للعلاقة بين المثقف والسياسي، أو الباحث والإداري، أو المفكر والمدبر، وموقع الثقافة في مخططات التنمية وأهميتها في مسار التطوير في حياة المجتمعات والشعوب ودورها في أي إقلاع مجتمعي وحضاري..
وهذا الجانب لم يعد محل جدال وخلاف، نظريا على الأقل، بين المثقفين والباحثين من جهة، والمنتخبين والسياسيين والإداريين من مدبري المجالات الترابية، من جهة ثانية، لكون الأمر سواء على مستوى حجم حضور الثقافي في المخططات والبرامج، أو على مستوى تنفيذه وتنزيله في الواقع، ما يزال يطرح أكثر من إشكال ومحل مساءلة ونظر وانتقاد. وقد دلت على هذه القناعة المحسومة لدى هذه الاطراف كل التجارب التنموية والتقدمية في العالم، وسبق أن تحدثنا عنه في أكثر من مناسبة ومقال، نذكر منها على سبيل المثال هاته العناوين: مدخل الإصلاح وإصلاح المدخل – الربيع ” العربي ” والنخبة المثقفة – البعد الثقافي في النموذج التنموي … وغيرها.
المثقف أوالباحث يعد الدراسات العلمية ويهيء التصورات والرؤى، انطلاقا من أرضية فكرية وثقافية واجتماعية، لا فقط استنادا على محددات مادية وتقنية، والمنتخب والإداري والقانوني يبنون عليها المخططات التنموية والتطويرية، ويستمدون منها البرامج، ويحولونها إلى إجراءات قابلة للتنزيل والتنفيذ على أرض الواقع، لأن مشكل التطوير ” ليس مشكل الأموال أو التقنيات، إذ مهما بني من معامل وأقيم من شبكات طرق، ومهما عين من وزراء للاقتصاد والتخطيط فلن ينفع ذلك في شيءإذا لم يخلق، في نفس الوقت، بيئة إنسانية وظروف ثقافية ” كما يقول صاحب ” الغدية ” الراحل محمد عزيز الحبابي، مجلة أبعاد فكرية، ع 1، ً 22.
إن ماهية الامم والشعوب والمجتمعات ومقياس رقيها تحدده ثقافتها وأفكارها وقيمها ومستوى وعيها، وليس ناطحات سحابها وبنيات طرقها وملاعبها وشوارعها، بل ولا حتى ما تزخر به من خيرات طاقية ومواد أولية ومعدنية وما تمتلكه من تجهيزات وتقنيات… فهذه العناصر – على أهميتها – ما لم تراع في استثمارها وتوظيفها البنية الثقافية والفكرية والاجتماعية للمجتمع، فلن تحقق أي تطوير حقيقي يسهم في بناء حضارة، وستخلو مما يربطها بواقعها السوسيولوجي والثقافي، وستفتقر إلى روح تربتها وعبقها التاريخي وأريجها الحضاري.
و” إن أي ثورة شعبية لم تكن ذات خلفية ثقافية، ولم تتأسس على هذه الأرضية، أو لم تنطلق من هذا المنظور، فلن تكون لها نتائج عميقة وحقيقية على أرض الواقع، ولن يحقق التغيير الذي يحصل من ورائها أبعاده التربوية والفكرية والحضارية، ولن تتجاوز محصلتها النهائية بعض المظاهر والصور والأشكال، وبالتالي ستأخذ هذه الثورة طابعا صوريا وشكلانيا، تثير الأرض ولا تسقي الحرث، تغلب عليها الغوغائية والغثائية.. تزينها النصوص القانونية المقتبسة، وتجملها التعددية السياسية والجمعوية والنقابية، تجعل أصحابها يعيشون في وهم اسمه التغيير والإصلاح والنجاح… ولكنهم، في حقيقة الأمر، أبعد ما يكونون عنه.. صحيح أن السياسة والاقتصاد يحققان المدنية والتنمية، ولكنهما لا يبنيان حضارة..” اقتباس من مقالنا: ( الربيع ” العربي ” والنخبة المثقفة).
ولذلك ف” إن أخطر عطب تعاني منه النخب السياسية في بلدنا، وأكبر ثقب في طريقة تفكيرها، هو هيمنة النزعة التقنوية – إن صح التعبير – في معالجة الكثير من القضايا المجتمعية، وعلى رأسها مسألة التنمية، هذه النزعة، أو هذه العقلية، التي تحصر عملية الإصلاح في عدة إجراءات تقنية، وتختزل العملية التنموية في مؤشرات رقمية، ولا تستحضر البعد اللامادي في حياة الإنسان، ولا تولي الأهمية الكبرى والمستحقة لمنظومة القيم. وحين يغيب هذا البعد أو تهمش هذه المنظومة في العملية التنموية ومسار التقدم والتطور، فلنكن على يقين أننا نسير سيرا أعرج، ونتنكب الطريق، ولن ننتج إلا كائنا مشوها، ولن نصنع إلا واقعا فيه كل شيء إلا إنسانية الإنسان وآدمية ابن آدم..” ( اقتباس من مقالنا: البعد الثقافي في النموذج التنموي ).
*أستاذ اللغة العربية بإعدادية ابن طفيل بتراست، أحيل في نهاية هذه السنة على التقاعد النسبي.
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News