الثقافة

اللباس : في الحاجة إلى استعادة وقار المرفق العام

  • عبد الرفيع حمضي //

“اللباس لا يصنع الإنسان، لكنه يفضحه.” – مثل أوروبي

لم يعد غريبا ولا مفاجئاً ولا عيبا ان يستقبلك موظف عمومي بمرفق إداري -قصدته لقضاء مصلحة ادارية – وهو يرتدي لباس غير منسجم مطلقا مع وظيفته بل لا تدري هل هو أو هي في غرفة النوم أو المطبخ أو قاعة رياضة كما لم يعد غريبا وأنت تتابع نشرة الأخبار عنوة فيصدمك هيئة هذا النائب أو المستشار تحت قبة البرلمان .

اما إذا قدر لك وتابعت تصريحات الباحثين والخبراء فاول ما يتبادر إلى ذهنك كيف لهذا الذي قبل على نفسه يظهر بهذا اللباس على المشاهدين في كل ربوع الوطن والعالم كيف هو هندامه بالمدرج والقسم مع طلبته وتلاميذه ؟ فالإعلام العمومي لم يعد لها أي مرجع أو ضابط في الموضوع لا لمستخدميه ولا لضيوفه .

ويزداد الوضع ترديا حين تلاحظ ان الأمر اصبح يتسرب حتى للأبناك والمهن الحرة التي كانت معروفة بصرامتها وتقاليدها في هذا المجال .

في التراث الإسلامي، كما في التجربة الأوروبية الكلاسيكية، لم يكن اللباس مجرد تفصيل هامشي في الحياة العامة، بل كان مرآة للوظيفة ولسُلّم القيم ولسياسة التمييز الرمزي التي تنظم الفضاء العام. كان القاضي لا يُقبل منه أن يظهر بغير عمامة نظيفة، وكان الخليفة لا يخرج إلى الجمعة دون لباس مخصوص يليق بمكانته الرمزية.

قال ابن خلدون في المقدمة: “إنّ الهيئة في اللباس والمظهر تُحْدِث في النفس هيئةً من الهيبة، وتأدبُ المرؤوس في حضرة الرئيس من أثر تلك الهيئة.”

بل إن كبار الفقهاء كابن جماعة والشاطبي والماوردي، اعتبروا الوقار الظاهر شرطًا ضمنيًا من شروط الثقة في المؤسسة. فاللباس ليس رفاهًا، بل سياسة ضمنية لإنتاج المهابة والاحترام والانضباط.

ABDERRAFIE HAMDI
عبد الرفيع حمضي

فهل ما نعيشه استهتار فردي ؟أم تراجع في رمزية الوظيفة وإفراغ للموسسات من بعدها الرمزي كجزء من أزمة الدولة الحديثة؟ حيث اصبح المسؤول لا يرى في مظهره تمثيلا لهيبة المؤسسة بل شانا شخصيا.

روى لي صديق عزيز رحمه الله، كان مستشارا برلمانيا انه . في أحد الأيام الحارة، خرج مع زميله لتناول الغداء بعد جلسة صباحية صاخبة وعند عودتهما إلى مقر البرلمان نسيا إعادة ارتداء ربطة العنق، وقبل ان يصلا إلى مكتب فريقهما البرلماني كان سي محمد نوبير الأموي، يتصل من البيضاء ويستفسر عن الأمر بعدما كانت إدارة الموسسة قد أشعرته بذلك . لم يكن يعتبر اللباس شكليًا، بل امتدادًا لاحترام المؤسسة التي يحمل اسمها.

ومرة صادف وجود الأستاذ عباس الفاسي شفاه الله بمحكمة الاستئناف بالرباط فلمح احد المحامين المتدربين بمكتبه يحمل حقيبته باليد اليمنى وبدلته باليد اليسرى دون لباس ملائم فأمره بمغادرة القاعة فورا أمام زملائه. فلم يكن الأمر توبيخًا شخصيًا، بل دفاعًا عن رمزية المحاماة وهيبة القضاء كجزء من فكرة “الهيبة المهنية”.

أما بتونس في زيارة لي مباشرة بعد سقوط نظام بنعلي. فوجئت في المطار برجال أمن بقمصان مفتوحة، دون ربطة عنق، وأحدهم يرتدي صندلاً بدل الحذاء. فعادت بي الذاكرة اى زمن مضى وانا الذي زرت تونس مرات عديدة أيام بورقيبة وبنعلي فبدا لي المشهد حينها عنوانًا لانكسار صورة الدولة في أدق تفاصيلها.

لا احد ينكر ان لكل فرد حريته في اللباس في حياته الخاصة وان كان هي نفسها ينظمها الدوق العام.

فالحقيقة أن مؤسسات الدولة ليست أماكن خاصة، بل واجهات عمومية. فحين يدخل الموظف إلى مرفق عمومي، أو يقف النائب تحت قبة البرلمان، أو يترافع المحامي أمام القاضي، أو يصعد الأستاذ منصة المدرج فإنه يمثل سلطة رمزية أو هيئة ما لا فردًا. والهيبة لا تُفرض بالقانون فقط، بل تُبنى بالرموز والمظاهر أيضًا.

اللباس هنا لا يختزل في الأناقة، بل في “الانضباط الوظيفي”، الذي يربط بين المظهر والمعنى.

• في سنغافورة، يخضع الموظفون العموميون لتقييم دوري يشمل الالتزام بالمظهر المهني.

• في اليابان، يعتبر الزي الموحد في الإدارات جزءًا من فلسفة العمل الجماعي، لا كبحًا للحرية.

• في فرنسا وألمانيا، تعتمد بعض الوزارات والأجهزة دليلًا سلوكيًا يفرض لباسًا معينًا في مناسبات رسمية، مع عقوبات رمزية عند الإخلال به.

إذا أردنا فعلًا إعادة هيبة واحترام الموسسات ، فعلينا أن نبدأ من التفاصيل. من الشكل، من اللغة، من سلوك الموظف، ومن مظهره. فاللباس ليس مسألة تافهة، بل هو أول رسالة غير لفظية تصل إلى المواطن. هو مرآة لاحترام الذات، واحترام المرفق، واحترام المواطن.

فحين لا يعود المواطن يميز بين موظف عمومي ومارة الشارع. أو بين أستاذ ومشجع كرة قدم. أو بين قاضٍ ومحام وناشط على تيك توك فذاك هو الانهيار الحقيقي لا الرمزي للمؤسسات .

فلنعِد للوظيفة العمومية هيبتها، وعيًا لا قسرا ولنعِد للهندام رمزيته، لا لنحكم على الناس من مظهرهم، بل لنستعيد صورة الدولة كما يجب أن تكون.

“المؤسسة تُوقَّر بوقار مُمثليها، وتُهان بإهمال تفاصيلهم.”

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى