الثقافة

القضية الأمازيغية والمسألة الثقافية في المغرب

  • بقلم محمد لحميسة //

القضية الأمازيغية والمسألة الثقافية في المغرب..إلياس المالكي، صورة الأمازيغي في الإعلام، الدولة والسياسات اللغوية والثقافية ومواضيع أخرى.

“قد يقتل الخطأ العلمي عدة أشخاص، أما الخطأ الثقافي فيبيد أجيالا كاملة مولود معمري”..

يخطئ من يظن أن إلياس المالكي مستهدف في شخصه، فهو لا يعدو أن يكون القشة التي قصمت ضهر البعير، بل وأن تلفظه بنعوت قدحية في حق الأمازيغ ليس بالشيء المفاجئ، لكن هذا شيء دأب حتى الإعلام العمومي الرسمي من خلال الأعمال الفنية على انتاجه، وبالتالي تكريسه في مخيلة المجتمع المغربي، إذ لا يخرج الأمازيغي في هذه الانتاجات عن كليشيهات وأوصاف تلتصق به كالوصم: الأمازيغي الشحيح، المنعزل عن العالم في دكانه، ذو اللكنة المعيبة، ناقص التحضر، انسان قروي بامتياز…الخ، وما إلياس وفق هذا المعطى إلا ضحية خطاب وحس مشترك تخترقه في عمقه تلاوين الكراهية والتطرف في النزعات المانوية التي تختزل العالم في نقيضين، بالضرورة متضادين: نحن=الخير=التحضر في مواجهة الأخر=الشر=التخلف.

ويعود بنا كل هذا إلى سياسات ثقافية ولغوية لا تفتأ تعيد إنتاج نفس الترسيمات “العنصرية”، وأذهب رأسا إلى  إجدى أهم تجليات هذه السياسات وهي الانتاجات الثقافية الرائجة في الإعلام الرسمي وأسلط الضوء على دورها سواء في تثوير/تغيير أو ترسيخ وعي وتمثل معين للذات وللأخر ولسبل تدبير التعدد الثقافي الذي يثقل كاهل الوطن، فبالنسبة لي، الإعلام هو المدخل الرئيسي للتأثير في تصورات العامة من الناس الذين لا يمكن استدراجهم أو اقناعهم بخطابات معرفية وأكاديمية عن دور التعدد والاختلاف والحرية المسؤولة في التأسيس لمجتمع يستجيب لإمكانات التقدم والتحديث السياسي والاجتماعي بوصفه مدخلا أساسيا للانتماء للعصر.

ولست الوحيد في هذا، بل أنني في قولي هذا متبع ولست مبتدع، فالباحث الأمريكي هارولد لازويل ذهب في أبحاثه الى أن وسائل الاعلام تشبه في اشتغالها الابر تحت جلدية، ومعنى هذا أن لوسائل الإعلام تأثيرًا قويًا ومباشرًا يشبه الحقنة التي تُدخل الأفكار والمعلومات إلى عقل الجمهور بشكل سريع ودون مقاومة.

وفي نفس السياق أقول أن الياس المالكي ضحية، في مستوى أول: ضحية سياسات لغوية وثقافية ما فتئت تهمش/تقصي الأمازيغ/اللغة الأمازيغية/الثقافة الأمازيغية من إمكانات الفعل المجتمعي، إذ تتحول الأمازيغية من ثقافة/لغة/هوية/رهان مجتمعي إلى قضية أقلية هامشية، مقاوؚمة بالمعنى النبيل والإنساني، مُزعجة في نظر من في يدهم زمام الأمر، يتم إخماد نيران هذه المقاومة/الازعاج بترقيعات وأنصاف حلول شعاراتها أكبر من التطبيقات العملية التي تُرى في الميدان، ولنا في تدريس الأمازيغية والمعيقات التي تعانيها وكذلك أزمة الأمازيغ الغير ناطقين بالتعبيرات اللغوية الأخرى مثل “الداريجة” والعربية في أنظمة العدالة والقضاء خير أمثلة، وتتعدد أشكال هذا الإقصاء الناعم لإمكانات الحضور المجتمعي للأمازيغية في الفضاء العام بالشكل المرغوب والديمقراطي، في مستوى ثاني: هو ضحية حَكَمَت عليه شهرته بالجُرم، فالملايين من الناس التي يستطيع أن يجمعها لعبت ضده في نزاع سقط فيه مدفوعا من جهله المركب بمآلات فعله الذي يستبطن تحريضا على الكراهية وانتقاصا مباشرا من الأمازيغ، لنقل أنه كان فم بدون عقل، يقول ما يظن أنه يرضي الجمهور الواسع من متابعيه، دون إدراك لخلفيات فعله على المستوى الثقافي والاجتماعي والقانوني بطبيعة الحال.

يبدو أننا في كل مرة نعود إلى رأس الأفعى التي تعض ذيلها، فالسياسات اللغوية والثقافية للدولة لا زالت لم تستدمج هي نفسها مفاهيم التعدد والتسامح والإختلاف رغم كل الشعارات التي تُرفع في هذا الصدد، وربما يجوز لنا في هذا المقال/المحاولة البسيطة أن نردد درسا بسيطا هو الاخر نشرح فيه قدر المستطاع المسألة الثقافية في المغرب والتشرذم اللغوي والهوياتي الذي لازالت الدولة تحاول رأب التصدعات التي يحدثها والتي تمزق الوطن، أولا قد نقف عند مسألة نظرية مفهومية محضة وهي التباين الجوهري بين التسامح والإختلاف، الدولة والفاعلين الثقافيين عندما يكتبون أو يتناولون قضية التعدد الثقافي في وطننا عبر وسائل الإعلام فإنهم يستعملون المفهومين بوصفهما يعبران عن فكرة واحدة أو مترادفين، لكن الحقيقة أن الهوة بينهما سحيقة، ويجب الحسم في الإختيار بينهما حتى تتضح الرؤى ويتضح المشروع الثقافي والاجتماعي الذي تريد الدولة تحقيقه، بمعنى أخر الخروج من المنطقة الرمادية إلى الإختيار وتحمل مسؤوليتها التاريخية والثقافية حيال اختياراتها.

لنبدأ بالتسامح، فهو يفترض بشكل ضمني تراتبية مبطنة تستوجب من طرف قوي أن يتسامح مع الآخر الضعيف أو الأقل شأنا، ومؤدى هذا القول أن رفع شعار التسامح الثقافي يستبطن علاقة قوى متفاوتة يقبل فيها طرف بأن لا ينهي او يقمع أو يُجهز على الطرف الثاني، بمعنى أن الأطراف التي تتسامح غير متكافئة بل دوما هناك طرف أعلى يتسامح مع من هم في مرتبة أدنى حتى يُظهر نبالته وإنسانيته، وقد تظهر لنا المسألة بشكل واضح في كتاب جون لوك رسالة في التسامح التي قد يخطئ القارئ في تبين قبعة جون لوك هل هو فيلسوف أم رجل دين، اذ ينطلق دوما من مرتبة أعلى ويدعو إلى التسامح مع المخالف كنوع من النبالة والإنسانية التي تستوجبها الحياة السياسية والعيش المشترك.

أما الإختلاف فهو يؤسس لعلاقة الند بالند دون تفاضل بينهما، أنا لست أفضل منك أو أقل منك أنا فقط مختلف عنك، ليس هناك طرف أعلى من الآخر، وهو خيار ثقافي تبلورت رؤاه حديثا في الفكر المعاصر عكس التسامح الذي كان من دعاوي التنوير وما يستبطنه هذا الأخير من تمركز واستعلاء ثقافي وعرقي يُفهم انطلاقا من السياقات التاريخية التي أنتجته، وقد أسهمت وأفاضت الدراسات النقدية والمابعد كولونيالية في تفكيكه.

القضية الثانية هي ملاحظة حول أحد العبارات التي يمكن ترقيتها إلى مستوى المفهوم بما لهذا الأخير من أثر وخلفية نظرية تسنده، أتحدث هنا عن تمغرابيت التي لم تُفهم تفاصيلها إلى حدود اليوم، وبغية تفكيكها أستنجد ببعض من مفاهيم ادوارد سعيد وهي/هما الطباق في مقابل التهجين، فما الذي يُراد بتمغرابيت فعلا، هل هي البوتقة التي تذيب بمعنى التهجين كل الإمكانات الثقافية التي تنشط في المغرب “الامازيغية الحسانية العربية …” في قالب واحد غير متناسق لا يفتئ يُنشط الصراع والتدافع الثقافي ويذكي جذوته بل ويدفع هذا الصراع إلى مداه الأقصى، أم تمغرابيت تفيد معنى الطباق الذي يحيل على تلاقي الأصوات المختلفة وتقاطعها لتنتج في النهاية صوتا مشتركا دون أن تلغي فرادة/فردية هذه الأصوات، إن المسألة وإن بدت نظرية ومستغرقة في التجريد إلا أنها مهمة في عملية الخروج من المنطقة الرمادية نحو الوضوح الذي من شأنه التأسيس لسياسة ثقافية ولغوية واضحة المعالم تخرج بها الدولة من أزمة اختياراتها في وقت سابق.

في فقرة أخيرة أود أن أسلط الضوء على ما اعتبرته مسؤولية مباشرة للفعاليات الثقافية الأمازيغية في تكريس تلك الرؤى الدونية التي طفت على السطح مؤخرا ونطق بها علانية اليوتيوبر والمؤثر الياس المالكي، ومفاد قولي هذا يصب في كون الفاعلين والمثقفين الأمازيغ دوما ما يرفعون من مستوى النقاش حول الحقوق الثقافية واللغوية للأمازيغ ويستغرقون في تفاصيل فكرية وأكاديمية -وربما أكون عبر ثنايا هذا المقال سلكت نفس الطريق- وينسون أن البناء دوما يبدأ من الأسفل، أي من العوام الذين لم يكن إلياس المالكي سوى يافطتهم ولسانهم هم الذين لا يمتلكون الزاد المعرفي الذي يجعلهم قادرين على فهم واستيعاب الابعاد النظرية والفكرية التي ينطوي عليها النقاش حول الهوية الثقافية للشعوب، وأظن أن المفتاح لتبسيط المسألة كان وسيكون هو الصناعات الثقافية التي لها من البساطة واليسر ما يستطيع أن يخترق وعي ولاوعي الناس.

وفي سياق الحديث عن السياسات اللغوية والثقافية وعن الاعلام العمومي الرسمي، أظن بأن كون الأمازيغ لهم قناة واحدة ناطقة بهذه اللغة وأكثر من ثمان قنوات تنطق “بالداريجة” والعربية هذا يستبطن رسالة مشفرة يجب أن تُلتقط، القنوات الموازية أيضا والتي تنشط على مواقع التواصل الاجتماعي تمرر رسالة ما عبر تجاهلها التام للتعبيرات الامازيغية في برامجها ومنتوجاتها، كذلك تخصيص الدعم المالي لمسلسلات ما تفتأ تكرر الكليشيهات التي تروج على الإنسان الأمازيغي والتي ذكرنا بعضها في بداية المقال وحرمان أعمال جادة من هذا الدعم العمومي هو الآخر يستبطن رسالة ما، وقد أذهب بعيدا الى حد القول أن الفصل اللغوي الكلي في الأعمال الفنية -أعمال ناطقة كليا بالداريجة أو العربية أو ناطقا كليا بالأمازيغية- التي تمر في جميع القنوات العمومية هي أيضا تستبطن رسالة مشفرة سأجتهد في تأويلها وأقول تعني: لكم دينكم ولنا ديننا، لكم لغتكم ولنا لغتنا، لكم أعمالكم ولنا أعمالنا، لكم قناتكم ولنا قناتنا، وسنعمل على تصويركم في أعمالنا في مظهر البدوي صاحب المتجر الشحيح وغيرها من الكليشيهات.

وأود هنا أن أختزل هذه التنميطات في ابداع مفهومي خاص بي هو الإستشلاح وأقصد به تلك الصور النمطية التي تلصق بالإنسان الأمازيغي/الشلح في الأعمال والانتاجات الفنية، وأصرح بأنه مستلهم أساسا من لفظة الاستشراق وما لها من مضامين في فكر ادوارد سعيد، وليس هذا فقط بل أن هذا الاستشلاح سيعمل الأمازيغ أنفسهم في ورشة إعادة إنتاجه في أعمال تمر في قناة الأمازيغية من خلال أفلام ومسلسلات يخصص لها دعم مالي كبير لتصور الأمازيغي في ثوب القروي المخادع الذي يعشق النميمة ويكيد المكائد للآخرين ويعشق المال أكثر من زوجته وعائلته وحتى نفسه…

وأحب أن أختم مقالي هذا بعبارة تكثف كل ما سبق وتترجم بأمانة ما أريد قوله، تضمنتها رسالة دانيال بيل الى ادوارد سعيد ويذكرها تيموثي برينان في كتابه “أماكن الفكر، حياة ادوارد سعيد” وهي كالتالي: “الخيال الفني يوازي بنية الفكر السياسي والاجتماعي” والعبارة تشرح نفسها وتُفهم على ضوء الأفكار التي حاولت عرضها في هذا المقال.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى