الثقافة

الفضاء الحضري كخطاب بصري: مقاربة سوسيولوجية وجمالية في مشروع نيويورك(حسين بوميلة).

  • بقلم : ذ محمد العماري//

في تجربة حسين بوميلة الفوتوغرافية عن نيويورك، نجد أنفسنا أمام نص بصري يخرج من حدود الفوتوغرافيا كفن تقني إلى فضاء الفلسفة والميتافيزيقا. هنا، لا تكون الصورة مجرد انعكاس للمدينة، بل إعادة خلق لها، وكأنها تُبنى من جديد داخل عين المتلقي. الأبيض والأسود، اللذان اختارهما الفنان، ليسا مجرد تدرجات لونية، بل هما مثل مقطعين شعريين يضعان العالم بين النور والظل، بين الكشف والإخفاء.

فالمشهد الحضري الذي نراه يوميًا في ازدحامه وبهرجته يفقد في هذه الصور ألوانه المألوفة، ليظهر ككائن أسطوري يتنفّس في فضاء لا ينتمي إلى زمن محدد. كأن بوميلة أراد أن يجرّد المدينة من أقنعتها، ليعيدها إلى أصلها، حيث الحركة ليست حركة، بل نبض، وحيث الضوء ليس ضوءًا، بل معنى.

المتأمل في هذه الصور يجد نفسه متورطًا في إيقاع داخلي، كأنه يسمع أنفاس المدينة ويشاركها حياتها. ليست الصور جامدة، بل هي مشبعة بحركة مستمرة، حركة تتجلى في كل تفصيل: خطوات المارة، ارتعاش النيونات، صدى الصرخات غير المسموعة.

هنا، تتحقق رؤية جورج زيمل(Georg Simmel) حين اعتبر أن المدينة الكبرى تُنتج في الفرد حالة مزدوجة: انفتاح على كثافة الحياة، واغتراب يفرض عليه أن يحمي ذاته من الانهيار تحت وطأة المؤثرات المتسارعة. بوميلة يجسّد هذه المفارقة: فبين تدفق الجموع، يلتقط لحظات توقف، ومضات فردية، نظرات تخترق الصخب لتقول إن الإنسان، رغم اندماجه في الكل، لا يزال قادراً على إعلان حضوره.

ناطحات السحاب تظهر في هذه الأعمال كأعمدة شاهقة تتجاوز كونها معمارًا إلى أن تصبح استعارات للروح البشرية في سعيها نحو العلو. خطوطها العمودية تحاكي صلوات صامتة، بينما تكرار نوافذها يوحي بتكرار لا نهائي، كأن المدينة تعيد نسج نفسها باستمرار.

هنري لوفيفر(Henri Lefebvre)، في حديثه عن إنتاج الفضاء، يؤكد أن المدينة ليست فقط انعكاسًا للضرورة الاقتصادية، بل هي نص اجتماعي يكتبه الناس وهم يعيشون فيه. ومن خلال عدسة بوميلة، ندرك هذا التداخل: فكل شارع ليس مجرد مسار، بل كتابة جماعية، وكل برج ليس مجرد حجر، بل نص عن الطموح والوحدة في آن واحد.

الإعلانات العملاقة، تلك التي تغطي الواجهات، تتجلى هنا كرموز لاهوتية جديدة (totem)، كأنها آلهة حديثة تراقب البشر دون أن تكلّمهم. رولان بارت (Roland Barthes,) وصف هذه الظاهرة بـ«الميثولوجيات المعاصرة»، حيث تتحول العلامة التجارية إلى أسطورة يومية تسكن وعينا دون أن ننتبه.

بوميلة يسحب عنها ألوانها البراقة، لتظهر في الأبيض والأسود كأشباح، كوجوه تراقب ولا ترى، كخطاب فارغ يفرض حضوره بقوة الصمت. هنا، يدخل المتلقي في حوار ضمني مع السؤال: من يملك المدينة؟ البشر الذين يسيرون في شوارعها، أم الصور العملاقة التي تعيد صياغة وعيهم كل لحظة؟

وفي خضم هذا الصخب البصري، تلمع ومضات إنسانية نادرة: وجه يلتفت فجأة وسط الزحام، جسد يتوقف لحظة بينما العالم من حوله يواصل الجريان. هذه اللحظات تستدعي البعد الصوفي، كما عبّر عنه ابن عربي حين قال إن الحقائق لا تُدرك إلا بالذوق، وحين اعتبر الإنسان مرآة تعكس الكوني في جزئي. كذلك عند الحلاج، الذي رأى في «أنا الحق» انصهارًا للفرد في الكل دون أن يُلغى وجوده. بوميلة يلتقط هذه الانصهارات الصامتة، حيث يبدو الفرد كجزء من المدينة، لكنه في الوقت نفسه لحظة فريدة لا يمكن استنساخها.

إنّ ما يدهش في هذه التجربة أن الصور تكاد تُسمع أكثر مما تُرى. فالمتلقي، وهو يتأملها، يسمع ضجيج الحافلات، صرير الأبواب، همسات الجموع، وصدى خطوات متسارعة. الأبيض والأسود هنا يصبحان مكبّراً للحواس، يحول العين إلى أذن، ويجعل من الرؤية تجربة شاملة.

في هذا، نجد صدى لرؤية باشلار (Gaston Bachelard) الذي اعتبر أن الخيال يتجاوز المعطى الحسي ليخلق صورة أكثر امتلاءً، صورة تحمل الصوت والملمس والرائحة إلى جانب الضوء والظل. بوميلة لا يقدم صورًا، بل يقدم عوالم حسية تتجاوز حدود الفوتوغرافيا لتلامس حدود الشعر.

زمن هذه الصور، أو بالأحرى غياب الزمن فيها، يمثل أكثر عناصر المشروع تفردًا. فغياب اللون يجعلنا عاجزين عن تحديد الفترة: هل هي صور من خمسينيات القرن الماضي أم من الغد القريب؟

هذا الغموض الزمني يجعل نيويورك، في هذه السلسلة، مدينة أسطورية تعيش في زمن دائري، في «الآن» الأبدي كما وصفه ميرسيا إلياد (Mircea Eliade)، حيث ينمحي الخط الفاصل بين الماضي والمستقبل، ويتحول الحاضر إلى أسطورة متكررة. إننا أمام مدينة لا تعيش في التاريخ بل خارجه، مدينة تشبه كائنًا أبديًّا يستيقظ كل يوم دون أن يعرف للزمن بداية أو نهاية.

وإذا أردنا وضع مشروع بوميلة في سياق التجارب الفنية العالمية، يمكن أن نلمس فيه حوارًا صامتًا مع أعمال مصورين مثل هنري كارتييه-بريسون (Henri Cartier-Bresson)، الذي تحدث عن «اللحظة الحاسمة»، ومع سول ليتر (Saul Leiter) الذي التقط في نيويورك جماليات الظل والانعكاس، لكن بوميلة يتجاوزهما بتجريده للزمن، وبمزجه بين السوسيولوجيا والفلسفة في صورة واحدة.

٠في أعماله، نجد حضورًا قويًا لروح إدوارد هوبر (Edward Hopper)، الذي رسم المدينة كفضاء للوحدة والصمت، غير أن بوميلة يعيد صياغة هذه الروح فوتوغرافيًا، في لغة الأبيض والأسود التي تمنح للمشهد صرامة شعرية لا تخلو من الحنين.

إن مشروع نيويورك ليس ألبوم صور، بل هو نص حضري/ فلسفي، مكتوب بعدسة ترفض أن تكتفي بالتسجيل، وتصرّ على أن تكون كتابة. المتلقي لا يغادره بانطباع بصري فحسب، بل بشعور عميق بأنه عاش داخل المدينة نفسها، كأنه سار في شوارعها، تنفس ضجيجها، وتذوق مرارتها وحلاوتها. وفي النهاية، ندرك أن بوميلة لا يقدم نيويورك كما هي، بل كما هي في جوهرها: مدينة لا تنام، لا تسكت، ولا تفنى، كأنها دعاء مفتوح في ذاكرة الإنسانية.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى