العولمة الثقافية بين نموذجين: المهدي المنجرة وتزيفتان تودوروف.
محمد لحميسة
تقديم:
رغما عنا نعيش في عالم معولم، عالم يعيش في سياق علاقات انتاجية واقتصادية على نمط الشبكة، يرتبط فيها فلاح فقير في جنوب الأرجنتين يعمل في ضيعة فلاحية بمطعم لماكدونالد في دولة الإمارات في دبي، أو اي مكان أخر في العالم.
وهذا الأمر جلي في الأزمات الاقتصادية الكبرى في مرحلة الاقتصاد الرأسمالي، بدءا من الكساد الأعظم 1929 الى غاية ازمة 2008 او حتى ازمة ما بعد كورونا وموجات التضخم الذي كانت الدول ضحيتها.
ان هذا الترابط الاقتصادي هو ما يسمى بالعولمة، غير أن امتدادات هذا الترابط لم تعد محصورة في تبادل السلع والخدمات بل أن الأمر امتد الى أن جعلنا نتحدث عن عولمات .
في هذا الصدد أردد تشبيه أجده عميق في التعبير عن تصوري للعولمة، الجميع يتذكر حصان طروادة الخشبي الضخم، هذه هي العولمة الاقتصادية، وبداخل هذا الحصان يتواجد جنود مهمتهم انجاح المهمة والفوز بالنزال، هذه الجنود هم العولمات المتحدث عنها، عولمة ثقافية، عولمة لغوية، بل وحتى نستطيع المجادلة -انطلاقا من التبعات والتحولات التي شهدها عالم ما بعد 11 سبتمبر- حول عولمة دينية!
والجدير بالتوضيح هو كون العولمة الاقتصادية لا يكون لها وجود قوي بدون العولمات الأخرى، فهذه الأخيرة لا يمكننا بأي شكل إعتبارها أعراض جانبية او مكونات ثانوية للعولمة الكبرى ذات الطابع الاقتصادي، بل هي محايثة، مقنعة، تمارس عنفها بشكل رمزي وخفي، لا تعلن عن نفسها الا ناذرا، وهذا ما يجعلها أخطر من وجهة نظري.
وانطلاقا من اهتمام ممتد زمانيا بهذا الموضوع، ارتأيت إلى ابراز هذا المفهوم المركب “العولمة الثقافية ” للقارئ غير المختص بشكل بسيط ودياليكتيكي، أوضح فيه ابرز السمات العامة لكل موقف نظري واكاديمي من الصنم الضخم المسمى العولمة الثقافية.
يمكننا تعريف العولمة الثقافية بشكل إجرائي بأنها تلك العملية التي تتدفق فيها وتنتقل الثقافة مكان السلعة او ربما تصبح الثقافة نفسها سلعة في سوق العولمة فيقتنيها من يريد، غير ان الثقافة هنا تخضع لمنطق غريب عن جوهرها، وهو منطق السوق، منطق العرض والطلب، منطق التقادم، منطق الراسمالية المتوحشة، حيث البقاء للأقوى للأكثر اثارة، للأكثر اغواء، وتؤثر في هذه العملية اشياء أخرى مثل الاعلام الذي اعتبره الفيلسوف الفرنسي جون بودريار نوع من الميتاواقع، واعتبره كل من بورديو والتوسير بأنه موجه ويخدم أجندات سياسية في الغالب .
وإشكالية هذا المقال هي باختصار شديد، هو كيف تعبر الخطابات الاكاديمية، او ما سماه الجابري بالثقافة العالمة عن موضوع العولمة الثقافية ؟
وللاجابة عن هذا السؤال ارتأيت الاستعانة بمفكرين اجد فيهما ذلك التعارض والجدل الذي كنت أريد ان اتخده منهجا في الكتابة والتوضيح، فالمهدي المنجرة عرف بكونه ناقدا حادا للعولمة بشكل عام خاصة الثقافية، على الفرنسي تزيفتان تودوروف الذي يدافع عن طرح أخر يستمد رؤاه من فكر التنوير الاوربي ذو الطابع الكوني .
تعبر العولمة الثقافية عن نفسها من خلل خطاطتين متضادتين:
-العولمة الثقافية بوصفها حرب وصراع.
على إعتبار أن أهم قضية تواجه العالم الغير غربي اليوم هي ماتسميه بعض الأدبيات بالغزو الثقافي او صراع الحضارات الذي يعد صمويل همنتجتون احد اعمدته، هو تيار يعتبر العلاقة بين الثقافات المختلفة هي بالضرورة علاقة تضاد وصراع تبحث فيها كل واحدة على الغاء الاخرى .
وهذه الخطاطة هي خطاطة هيجلية(هيجل) اساسا وفق ما أسماه صاحب الدياليكتيك نفسه: برغبة البحث عن الغاء الاخر وانتزاع الاعتراف منه، إعتراف السيادة والرضا بوضعية دونية هي وضعية العبودية.
ولا تخفى هيجلية امريكي اخر هو فرانسيس فوكوياما التي اظهرها جليا في كتابه الموسوم نهاية التاريخ، وهي اطروحة هيجلية بامتياز، اذ حسب الفيلسوف الألماني التاريخ سينتهي نهاية حرب الاضداد المتناقضة، حينما تصل الاطروحةla thèse ونقيض الأطروحة l’antithèse إلى حل يكون هو التركيبsynthese، ولا يبقى هناك صراع وتناقض ومحرك للديالكتيك الحاصل بين الاطروحة والنقيض.
بالنسبة لهيجل لا وجود للوجود الا من خلال تعارض بين رغبتين )الأطروحة ونقيضها(، والصراع المحتذم بينهما يؤدي الى نتاج جديد كليا هو التركيب، وفي الوقت الذي تنتهي فيه سلسلة المتناقضات نصل الى نهاية التاريخ.
وهذه ايضا جوهر النظرة الماركسية للتاريخ، صراع طبقات حتما سينتهي بالمجتمع الى النظام الشيوعي، اي سيطرة النموذج الواحد، وبالتالي تنتهي الرغبات المتناقضة، وينتهي الصراع وبالتالي نهاية التاريخ.
يمكن القول بشيء من التوجس بأن تبني مثل هذا التفكير هو دعوة صريحة للحرب.
لكن أي نوع من الحروب، هذا هو السؤال. أ مازلنا نعرف بسذاجة الحرب بالجنود والدبابات؟ ألسنا في مرمى حرب من نو ع اخر؟ حرب ثقافية، حرب سيميائية، حرب رمزية، تتعدى بربريتها نظيراتها التي سبقت ووسمت القرن الماضي، ثم هل نحن واعون بهذه الحرب؟ وهل نملك من الأسلحة ما يمكن أن يحمينا في ساحة الحرب المفتوحة المسماة عولمة؟
إن مثل هذه الخطاطة نجدها جلية في فكر المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة الذي يعتبر العولمة استمرار ممتد للإمبريالية ورداء اقتصادي لعملية استعمار حضاري وثقافي.
ونجدها في سياقات اخرى وبدرجات متفاوتة كلها تدين العولمة والاستشراق المتعالي الذي يعرف نزوع نحو أيديولوجيا مركزية الانسان الابيض الغربي عند مفكرين اخرين سواء في العالم الغربي أو في الشرق ولعل أحد أبرز هذه الوجوه “علي عزت بيجوفيتش” و”عبدالوهاب المسيري” “نعوم تشومسكي” “ادوارد سعيد” وكذلك “حسن اوريد. ”
ثم هناك الخطاطة حيت تكون:
-العولمة الثقافية بوصفها حوار وتثاقف.
هذا التيار يؤمن ان الحضارة الإنسانية تتجاوز حيثيات الصراع الاثني او الديني او اللغوي، فهي تعتبر الوجود المشترك يشمل كل الثقافات وكل الحضارات وكل الديانات ضمن نسيج حضاري واحد متماسك تذوب فيه كل الاختلافات والفروقات الثقافية واللغوية والدينية.
ولعل ابرز ما يدعو اليه هذا التيار هو الحوار كفعل عقلاني يوصل الخلفات الى نقاط التلاقي والتفاهم، وكذلك يدعوا الى التسامح بوصفه قيمة انسانية وأفق تبني الحضارة الانسانية ركائزها حوله.
هذا التيار يعتبر الإنسان وحياته ووجوده من المقدسات، التي يعد احترامها واجبا اخلاقي اولا، وواجبا قانونيا، ويضل هذا الاحترام قائما ولو بلغ الاختلاف بين الأطراف ما بلغ.
عديد الأصوات تذهب في هذا السعي سواءا داخل دول الشمال او دول الجنوب، ولعل ابرزهم عالم اللسانيات والمفكر تزيفتان تودوروف، وربما قد نعتبر بعض الاصوات المنادية بالعلمانية في الشرق تنصب في نفس الاتجاه مثل فرج فوده وسيد القمني واخرين. ..
الفصل الأول:
المهدي المنجرة: العولمة ببساطة هي أمركة!
عرف المهدي المنجرة بموقفه النقدي الصريح من العولمة، ومن المؤسسات التي تساعد النظام العالمي على البقاء والاستمرار، كالبنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة.
ويقول المهدي المنجرة أن النظام العالمي الحالي ه و نظام يخدم عقلية ومبادىء الثقافة الغربي ة الراسمالية، بل وأكثر من ذلك انه نظام بني على انقاض الامبريالية والنزعات الاستعمارية، وهو في الأخير استمرارية لهذه النزعات العنصرية، وبها تتحكم دول الشمال في دول الجنوب ليس اقتصادي ا وسياسيا فقط، لكن هناك سطوة اكثر قسوة ه ي السطوة الثقافية التي تؤدي الى حالة الاستلاب الثقافي، وهي حالة يكون فيها انسان العالم الثالث عاجز عن إكتشاف حقيقته الثقافية، من هو، وكيف يعيش، ماهي منطلقاته، وماهي هويته، إنه انس ان يعيش حالة انسلاخ كلية عن نفسه، وعن هويته، وعن ثقافته فنجده يمجد الأخر، ويعتبره رمز التقدم الخالص ،فيما هو وثقافته الأم ولغته الأم وهويته رمز للتخلف والفشل والتقهقر الحضاري، وهو في ذلك يجتر ويعيد إنتاج الأطروحات الاستشراقية المغالية في النظرة الإحتقارية ،والدونية لإنسان العالم الثالث والغير غربي.
إن مشروع العولمة الأكبر هو إذابة كل ثقافة مختلفة عن النموذج الثقافي الغربي، بعبارة استعملها الاستاذ المنجرة في جل كتاباته، إن العولمة هي أمركة للعالم، وأفقها أن يصبح العالم أمريكا كبيرة، بثقافة واحدة، بلغة واحدة، بعقلية واحدة، بتمثلات ثقافية متشابهة، وربما بديانة ورب واحد، يذهب حسن اوريد في كتابه افول الغرب الى القول بلغة ملتبسة بأنه المال، الذي تحول من أداة الى غاية، والرأسمالية التي تحولت من نظرية اقتصادية إلى عقيدة لا تناقش ويجب ان نسبح بحمدها.
المهدي المنجرة كان يدعوا في مجمل كتبه إلى المقاومة، إلى تقوية الجبهات الداخلية، في ك ل المجالات: الاقتصاد والسياسة والثقافة ايضا، ففي كتابه الموسوم بزمن الذلقراطية والذي هو عبارة عن حوارات مع الصحفية والباحثة هند عروب، يقول المرحوم الاستاذ المنجرة أن العولمة لن تولد أزمات اقتصادية فحسب، بل هي خراب الشعوب على جميع المستويات الاقتصادية والديموقراطية والثقافية، لأنها سياسة استعمارية تهدف إلى الحفاظ على مصالح مبتدعيها، على حساب تعميق أزمات العالم الثالث من طريق الضغط العسكري والاقتصادي وفرض أساليب هذه المجتمعات، وكذا عن طريق الشركات المتعددة الجنسية التي انخفض وتقلص أمامها دور الدول والحكومات لما تملكه من مال وسلطة تفوق حتى سلط الدول التي توجد على أرضها.
أما عند حديثه عن العولمة الثقافية وكيف السبيل للتصدي لها يقول: مصير ثقافتنا الوطنية رهين بتطهير أجوائنا من المثقفين المرتزقة، وبدحر كل ما هو دخيل على أفكارنا، حتى نبني لشعوبنا أرضية ثقافية قوامها الأمانة في العمل الفكري، لتنعتق من الإستلا ب الفكري، والإنسلاخ الثقافي .
الفصل الثاني:
تزيفتان تودوروف: نموذج دفاع انساني لبناء جسور الحوار بين الحضارات.
لقد كان عالم اللسانيات والمفكر الفرنسي ذو الاصل البلغاري تزيفتان تودوروف مدافع صلب ضد تيار صراع الحضارات، يدعوا ليل نهار الى الحوار، الى التفاهيم، وبسط خيوط الترابط والتكامل بين مختلف الثقافات والحضارات اذ انها كلها تنتمي وتذوب في قالب واحد هو الانسانية.
يجزم المفكر على أن لا وجود لثقافة خالصة، ان كل الثقافات مخلوطة، اما هجينة او خلسية ،وبالتالي فالفرد لا يملك هوية ثقافية واحدة بل هويات متعددة قادرة على الاندماج.
والثقافة السكونية هي بالضرورة ثقافة ميتة، يتجاوزها منطق التاريخ الذي ليس هو الا منطق التشارك والتفاعل.
ان من خصوصيات الثقافة انها متغيرة وقابلة للتحول ويقول في معرض دفاعه عن اطروحاته هذه : ان العزلة وتقوقع الثقافات والمجتمعات، سواء أفرضت من الخارج ام تمت المطالبة بها من طرف هذه الثقافات، تبقى مواقف اكثر قربا من قطب البربرية، بينما الاعتراف المتبادل بينهم هو خطوة نحو الحضارة. ان الاموال العامة يجب ان تستثمر في ما من شأنه ان يوحد عوض ما يفرق ويعزل ”
ان من مصلحة الانسانية بكونها مفهوم يتجاوز الاثنيات والحدود المادية والرمزية ب ين الجماعات البشرية ألا تذكي جذوة الأهواء البدائية المحرضة على كره الأخر ،خاصة في عالم اليوم الذي يتميز بالتطور السريع لوسائل الاتصال والتكنولوجيا، كما يتميز بتوحيد الاقتصاد، اصبحت شعوب مختلف الدول الاكثر قربا، واصبح كل منها يعتمد على الأخر. ان دعاة التحريض والكراهية بؤساء ويعانون قصورا في التفكير وينطلقون من فكرة ان الكراهية جزء من صميم انسانية الانسان، لتحديد هويتنا واذكاء مشاعرنا ،سنكون في حاجة الى اعداء.
ان هذا المنطق الاختزالي الذي لا يرى في الأخر الا عدوكما سبق القول هو دعوة صريحة الى الحرب، الى الصراع، وهذا يتنافى مع مسار الفكر الانساني الذي ينحوا للخروج من الطائفية والحرب نحو التنوير والانفتاح والتعايش والتسامح.
يقول تودوروف “على كل كائن بشري أن يحدد موقعه بالنسبة الى الناس الاخرين، لكن لا ينبغي اختزال هذه العلقة في حالة من الحرب، بل في الدعوة الى الحب ،الاحترام، التقليد، روح التنافس … فالتفاوض لا يقل انسانية عن الكراهية، مثل اي رؤية مانوية تقصي الموقف الثالث، فإن تقسيم الانسانية الى اصدقاء وأعداء يجنح الى تحويل الجماعة الانسانية الى كبش محرقة مسؤول عن كل شرورنا” .
“ان نعمل على وصف خصومنا السياسيين والاقتصاديين كوحدات مشكلة ل محور الشر يعني اننا نساهم في تفاقم هذه الفوضى المثيرة للرثاء.”
ان قيمة تودوروف تكمن في تشبعه بروح فلسفة الانوار الاوربية التي تنبذ الكراهية والعنف والجهل وتمجد التسامح والتعايش والمعرفة، ويقف موقف النبي الذي يعارض التيارات الشعبوية اليمينية الفاشية التي تؤمن بتفوق عرق على آخر، بمجد ثقافة على حساب اخرى ،قد نقول انه حالم ومثالي ،وقد نختلف في بعض تطبيقات تأملته النظرية هاته، لكن لا نبخس قيمة فكره وصدق نيته في التأسيس لمجتمع بدون ضغينة هوياتية، بدون حقد ثقافوي، بدون كراهية اثنية، مجتمع يقوم على التسامح والتعايش.
اذ ان صورة العالم على انه حرب الجميع ضد الجميع ليست فقط صورة زائفة، بل تساهم أيضا في جعل العالم أكثر خطورة، وأجزم على أن لا أحد سيستفيد من كون العالم اكثر خطورة!
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News