الشعر الامازيغي في سوس حامل لغوي لتاريخ ولغة وثقافة أهل سوس..
- ذ. محمد بادرة
الادب الشعبي هو من نسج خيال الامة والجماعة يتردد بين الافراد والجماعات ويتغير بتغير البيئات والازمنة ويتطور بتطور المجتمع والانسان ويحمل مضامينا وقيما انسانية لأنه يعبر عن الوجدان الجمعي وتنعقد عليه ابعاد الوجود الانساني الواعية وغير الواعية وهو يمثل الشكل الحضاري في التعبير عن التجربة الانسانية الجماعية، وعليه يمكن ان لا نستغرب اذا وجدنا الفلاح او الراعي اديبا ومثقفا شعبيا ولن نستغرب ان نرى الحرفي او التاجر اديبا وفنانا شعبيا كما الام المربية او الجدة الحاضنة اشبه بمثقفة عضوية لدورهما في تمكين المجتمع المحلي من اكتساب اللغة الام اما الناظم والمغني والراقص الشعبي فهم مبدعون بالفطرة والطبيعة تذوب شخصيتهم الفردية في شخصية الجماعة تثبيتا لقيم انسانية اسمى وتعبيرا عن موقف جماعي يحمل نبض الواقع والانسان.
الادب الشعبي الامازيغي عريق عراقة التاريخ الامازيغي لا يمارس كحرفة او كصناعة فنية و لا يزاول كمهنة تكسبية تحتكرها طبقة دون أخرى أو فئة دون غيرها وهو ليس حالة من الخيال الفني او الابداع الذهني فحسب بل هو اداة لنقل وتصوير نبض الحياة والمجتمع وتحولاتهما التاريخية والاجتماعية. انه فن وابداع فطري ينمو في احشاء الذاكرة الجماعية ويمكن لكل من يمتلك ناصية اللغة وقسط من الخيال أن يلجه ويغوص في بحره كما يسمح لأي شخص أن يزاوله دون الانسلاخ عن وضعيته وأنشطته. انه القوام الثقافي للكائن الانساني الامازيغي الذي لا يفصل بين طبيعته وثقافته وهويته وهو ما يعني ان الادب الشعبي الامازيغي صادر عن وحدة حية من افراد متجانسين ومتلاحمين فكريا وعاطفيا.
والشعر الامازيغي لأهميته وغزارة مادته يكاد ان يغطي على باقي الاجناس الادبية الامازيغية الاخرى وهو الاكثر انتشارا وتداولا في المجتمع المحلي قديما وحديثا وفي منطقة سوس نجد الشعر الامازيغي التقليدي لا ينفصل عن فني الغناء والرقص(اذ يعتبر بمثابة ظاهرة جماعية تندمج في المناخ الثقافي وفي الحياة اليومية للمجتمع الذي يتمخض عنها، والذي يتوسلها كتعبير عن افراحه واحزانه وانشغالاته فيكون انبثاقها مقرونا بالمناسبات الاجتماعية والدينية…ولذلك ففي المجتمع الامازيغي في سوس ينسحب المصطلح المقابل للشعر “امارك” في ان واحد على الشعر ذاته وعلى الغناء والرقص الجماعيين .. ان الشعر الامازيغي غنائي في جوهره مصطبغ بالشفاهية والجماعية اللتين تجعلان منه انتاجا مرهونا بظروف تواصلية مباشرة وبدونها يفقد اهم مقوماته ووظائفه ذلك ان الشاعر/ الناظم – المغني لا يؤدي مهمته كاملة الا في محفل جماهيري يتكامل فيه دورا المرسل والمتلقي وفق طقوس تقليدية مقام الرقصة الجماعية (احواش)- د. الحسين المجاهد.
الحاج بلعيد – بوبكر ازعري- مولاي موح – بوبكر انشاد – الرزوق – الدمسيري – امنتاك – وهروش…هي اسماء بارزة في عالم الشعر الامازيغي الاصيل في سوس كما انهم نجوم مضيئة في سماء فن الغناء الامازيغي (فن الروايس)ولقد بنت هذه الاسماء الشاعرية عروشها وممالكها في الغناء بواسطة الفطرة والطبع والكلمة الشاعرية فحركت بها العواطف والمشاعر الانسانية النبيلة حبا واخاء وصدقا …واسست مدارس في فن الغناء كما كان لكل شاعر من هؤلاء مدرسة فنية غنائية تميزه عن الشعراء الاخرين :
بوبكر ازعري كان شاعرا مولعا بشعر الحماسيات مستغلا وموظفا صوته الشجي القوي المجلجل وانغامه الحماسية والاته الوترية التي تساير قوة شعره غناء ولحنا وكلمة كما كان شاعرا متمردا على اوضاعه وظروف حياة الناس فابدع شعرا فيه الهجاء والنقد الساخر لأوضاع الناس واحوالهم فاضحا مفاسد المجتمع -آنذاك- ومذكيا الحماس من اجل الحفاظ على قيم الفروسية والشجاعة والاخلاص والصدق..
محمد البصير الشاعر المتبصر لواقعه وحياة الناس البسطاء والمحرك لوجدانهم بصوته وغنائه وان خانه الحظ من نعمة البصر لكن لم تخنه بصيرته وفطرته وسليقته الفنية فبرع في الشعر والغناء وخصوصا في القصائد التي تنحو منحى دينيا واخلاقيا حتى انه احتار الناس في شخصه وشخصيته الفنية هل هو شاعر فقيه؟ ام فقيه شاعر؟
الرزوق شاعر الحماسيات البارع في وصف المعارك وضراوتها الدقيق في تفاصيل نقل حياة القبائل الامازيغية وطباع اهلها وكرم بسطائها وشيوخها واعيانها و دور فقهائها ونسائها وابنائها.. مؤسسا بذلك مدرسة شعرية غنائية وظيفتها نقل نبض الواقع وتحولاته التاريخية والاجتماعية …
الحاج بلعيد امير الشعر والشعراء في سوس بل وفي الوطن بكامله حمل الته “ربابه” واستعان بقريحته الفطرية الشاعرية وابدع في كلامه واوزانه وايقاعاته وصوره الشعرية واساليبه الفنية (من الاسلوب السردي القصصي – الى الاسلوب الشاعري الى الحماسي ..) كان له الحظ ان جاب الامصار والبلدان شرقا وغربا متغنيا بوطنه وباهله وقومه ولغته ومدافعا عن القيم الانسانية الاسلامية السمحة..
بوبكر انشاد شاعر الغزل الرقيق- الشاعر المتيم الحكيم احتل موضوع الحب في شعره مكانة مهمة وفي شعره تجد حب المرآة وحب الحياة وهو حب صاغه الشاعر في قالب جمالي انساني يجسد به علاقة الرجل بالمرأة من خلال علاقته بالحياة في بلدته وفي مجتمعه وفي اسرته….
ماخ ءالموت ليغ ءا تاويت ءيهواوين
فكغ ءاك لمان ءار غويغ ءوداد تكرفت
وعاصر الشاعر بوبكر انشاد مرحلة الاستعمار وشاهد اساليب الترهيب والتنكيل والتقتيل بالمواطنين من كل الفئات والطبقات وخصوصا الفقراء والفلاحين لذا دعا في شعره واغانيه الى مقاومة الاستعمار ونبذ الضغائن والاحقاد والصراعات بين القبائل والعشائر السوسية لتوحيد صفوف القبائل والعشائر والناس لمجابهة المستعمر.
ويتجلى ازدهار الشعر الغنائي التقليدي في الثقافة المحلية في سوس وفي كل المناطق الامازيغية بالمغرب في كثرة وتنوع اسماء الشعراء المغنين حسب وظيفتهم الفنية ونوعية النشاط الذي يزاولونه الا ان (القاسم المشترك بينهم هو كونهم غير محترفين ويندمجون عضويا في محيطهم الاجتماعي) وصفة الشاعر لا تخول للواحد منهم الا اذا كان يتميز عن باقي الافراد ببلاغة اللسان والتعبير – المؤلف السابق.
ومن انواع الشعر الغنائي الامازيغي وتعدد اسماء الشعراء المغنين، يمكننا الاستئناس بالتسميات التالية: انظام _ امرير _ الرايس _ انشاد _ امدياز – املكاز _ اهياض _ …
– ءانظام – ءامرير(ج: ءينضامن / ءيماريرن ) وهو الشاعر الموهوب ذو الحظوة الخاصة وسط قبيلته، ينظم الشعر لا بوعي بل بوحي والهام. ولا يحترف النظم او الشعر ولا يسترزق بهما وإنما يبدع في نظم الشعر وإلقائه امام الحاضرين في مناسبات خاصة (المواسم الدينية والاعياد) او في الحفلات التي تقيمها القبائل والعشائر كمثال (مهرجان ءاحواش) ويرجع الكثير من العامة موهبتهما(انظام_ امرير) إلى ما يعرف ب ( علم لكرش ) أو (علم الباطن) أو ( علم النور) وهو ما ينافي في نظر الفقهاء علم الدين أو علم الحق لذا فهؤلاء الشعراء يقتصرون في نظمهم وشعرهم على الامور الحياتية الدنيوية وكان هذا سببا رئيسيا في ضعف تدوين فقهاء سوس للنصوص الشعرية باستثناء النصوص التي تحمل المضمون الديني (قصائد القصص الدينية – قصائد الحج – الصلاة – ..)
– الرايس(ج: الروايس)- مؤنثه تارايست (ج: تارايسين) وهو الشاعر(ة) المحترف للغناء الذي يجمع بين النظم والعزف والغناء وله فرقة (رباعت) يتكسب بها وتتكون عادة من الرجال والنساء بعد أن كانت في البدايات الاولى تقتصر على الرجال والصبيان ( لأن صوت الصبيان يحاكي صوت النساء) ويقوم دور الرجال بالعزف على الآلات ( لوتار و الناقوس) بينما تتوالى النساء دور الترديد وأداء الحركات الراقصة.
ج- ءانشاد (ج: ءينشادن) وهوفنان ملهم ومبدع يوازي دوره الفني دور (امدياز) بالأطلس المتوسط. انه شاعر اكثر منه مغني يقوم بنظم وانشاد مطولات شعرية ذات طابع ملحمي ومضامين دينية واجتماعية واخلاقية. عرفهم الاستاذ محمد شفيق باسمهم المستعار من اللغة العربية والذي سموا به انفسهم وهم قلما يستعملون الات الطرب وانما ينشدون شعرهم انشادا. وانشادن لا ينظمون الاشعار الصغيرة والمتفرقة ولكنهم ينظمون القصائد الطويلة وهم قلما يتغزلون بشعرهم وانشادهم الا نادرا.
د- ءاهياض (ج: ءيهياضن) لفظة امازيغية- سوسية يقصد بها الشخص الفوضوي المتمرد على عادات وتقاليد القبيلة ولذا فهذا اللفظ (اهياض) ينتمي الى الحقل السوسيو- ثقافي لأنه وليد سلوك وموقف اجتماعي واخلاقي و اصطلاحا فان اللفظ يقصد به فرقة فنية متجولة مشهورة في ربوع منطقة سوس وتتكون من مجموعة من الشباب المعروفين أيضا باسم فرقة ” الرما ن- تروا سيدي احمد اوموسى ” يترأسهم مقدم يتولى تنظيم حفلاتهم وعروضهم الفنية والبهلوانية في مختلف المناطق التي يزورونها داخل المغرب أو خارجه، وكان لهم دور كبير في نشر الحان واشعار الكثير من الشعراء (الروايس) والحانهم كما يرجع لهم الفضل في عرض وتقديم الرقصات المشهورة في سوس، ومن الآلات والادوات الغنائية التي يوظفونها في أنغامهم ورقصاتهم ” تلونت ” ( الطارة ) و ” لعواد ” ( الناي).
هذا التنوع الذي يعرفه الشعر الغنائي الامازيغي التقليدي انما يكشف عن تنوع الامكنة والازمنة والبيئات الاجتماعية واختلاف اذواق المتلقين حسب مستواهم الثقافي ومنشئهم البيئي (البادية – المدينة- متعلم- امي- حرفي – عامل – اجير ..) وانه كلما تطورت الحياة الا ويتطور معه انماط التعبير الشعري ويجد الشاعر/او الرايس/او امرير نفسه حرا للتعبير عما يلائم ظروفه الاجتماعية والثقافية ويختار الشكل الغنائي واللحن الموسيقي القادرين على التعبير عن ظروفه وحالته النفسية … ان الشعر الامازيغي التقليدي هو تعبير تلقائي عن الوجدان الجمعي وتسجيل امين للبيئة التي انتجته وسجل تاريخي لحياة الشاعر ومجتمعه وفنه وبذلك يكشف هذا الشعر في كل زمان وفي كل مظهر من مظاهره عن حصيلة نتاج التطور التاريخي للمجتمع وآدابه وفنونه.
الشعر الامازيغي التقليدي وضعف التدوين
الشعر الامازيغي التقليدي هو ظاهرة فنية شفهية يتنقل بالتوارث جيلا بعد جيل ويختزن في الذاكرة الجماعية الشعبية مما قد يعرضه للتلف والانتحال والزيادة والحذف باستثناء بعض القصائد المشهورة والمطولات الشعرية التي دونت في فترات تاريخية لما لها من قيمة ثقافية وتاريخية و دينية و سياسية آنذاك، من قبيل :
الأشعار المنسوبة لسيدي حمو الطالب والتي دون جزء منها من قبل الاستاذ محمد امرير في 1985 غير ان ما دون من اشعاره تضاربت الآراء حول صحته وانتسابه للشاعر خصوصا وان انتقال هذه الاشعار المنسوبة للشاعر من منطقة الى اخرى يفقدها خصوصيتها المحلية وقد تكتسب لونا غنائيا وشكلا مغايرا عن اللون والشكل الاصليين عن طريق ادخال التعديلات الطفيفة او العميقة على الاسماء والاماكن والصفات… علما ان شعر سيدي حمو ما يزال مستمرا وحيا تتداوله الألسن ويتردد باستمرار في حلقات الشعر والغناء والرقص وفي المواسم الفنية والاعراس والافراح .
القصائد الدينية وهي التي حظيت بالتدوين من طرف بعض المؤرخين المحليين ومن قبل بعض الفقهاء ورجال الدين ومن أهمها بحر الدموع والحوض للاوزالي ( سيدي محمد بن علي اوزال ) – ( لعقايد –ن- الدين) للصنهاجي .
وساهم الباحثون الأجانب وخاصة الكولونيا ليون الفرنسيون إبان فترة الاستعمار وبكثافة في جمع الأشعار المتداولة آنذاك سواء بين العامة أو تلك المنظومة من قبل الشعراء ومن أقدم المجموعات المدونة من طرف هؤلاء الاجانب:
- كتاب دو لابولات (1840).
- كتاب شتوم (1895) المشتمل على أشعار غنائية من تازروالت.
- مؤلفات جوستنار وإميل لا ووست (1930/1940).
- مؤلف بوليت كالان (1972) المتضمن لأشعار الجوالين وفرق الروايس من أمثال – الحاج بلعيد – بوبكر أنشاد – بوبكر ازعري والتي جمعت بين سنتي 1954-1966.
وفي العقود الأخيرة ازدهر التأليف وانتقل الإبداع الشعري من الطابع الشفوي إلى إطار التقليد الكتابي ثم ظهرت فئة جديدة من الشعراء منهم الشباب المتعلم والجامعي المنخرطين في الجمعيات والمنظمات الثقافية الامازيغية ومنهم المبدعون المحترفون والمتخصصون في الادب والثقافة الامازيغية ينشرون اشعارهم بالخط العربي وباللاتيني او بحروف تيفناغ في العديد من المجلات والدوريات او على شكل دواوين شعرية ( محمد مستاوي – علي صدقي ازايكو – إبراهيم أخياط – حسن ادبلقاسم – احمد ابوزيد -…)
وبهذه الطفرة الابداعية النوعية أصبح ممكنا التمييز بين الشعر الغنائي التقليدي الذي ما يزال مستمرا على يد الروايس تتلقاه الاسماع في الحفلات وفي الاعراس والافراح والمهرجات الغنائية وفي حلقات الأحواش وبين الشعر الامازيغي الحديث المنشور في المجلات والكتب والمؤلفات او المتداول في المواقع الالكترونية وفي الندوات والمهرجانات الثقافية إلى جانب الانتاجات الثقافية الأخرى كالحكايات والقصص والمسرحيات…
ومن ايجابيات هذا التحول الثقافي النوعي في طبيعة الشعر الامازيغي تطويره واغناؤه بمضامين جديدة أخرجته من دائرته المغلقة التي كان حبيسا فيها لارتباطه أكثر بالمجال القروي وبالغناء بعد الانتقال إلى الحواضر على يد الروايس المحترفين ..لكن رغم هذا التراكم الشعري المتنوع اصبحت الضرورة ملحة ليلج هذا الشعر المؤسسات التعليمية ويحتل حيزا خاصا في البرنامج والمنهاج الدراسي ويأخذ موقعه الحقيقي في الساحة الثقافية الوطنية لأنه حامل لغوي لتاريخ وثقافة ولغة اهل سوس.
- ذ. محمد بادرة
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News