الدولة الدركية والدولة الإجتماعية: الخيط المشترك والشعرة الفارقة
- بقلم: امحمد القاضي//
للمغاربة ذكريات مريرة مع الدولة الدركية، أكثر ما لهم خبرة محفزة مع الدولة الإجتماعية لحداثة التجربة.
فتجربتنا مع الدولة الدركية État Gendarme، عشناها فيما أسطلح عليه سنوات الرصاص. مرحلة كان الهاجس الأمني هو محور الحياة، دور الدولة خلال الفترة يتخلص في ضمان إستمرارية النظام، وحراسة القلعة من الأعداء والأطماع الخارجية، وتسخير أجهزتها الأمنية والإستخباراتة والعسكرية لمراقبة الإنفلاتات وقمع التحركات المشبوهة وحكم السيطرة على كل التوجهات الخارجة عن مربع إهتمامات السلطة المركزية.
كما تعمل على توفير الأمن الداخلي وتسخير مخبريها وأدرعها المختلفة ونظامها المعلوماتي للقيام بضربات إستباقية تقيها شر السقوط في أزمة أمنية أو فتنة مجتمعية. للدولة هنا دور فعال في حماية المواطن من إنزلاقاته، ومن السقوط في فخ الأفكار الهدامة أو فيما مالا تحمد عقباه. وهذا من حق الدول وواجبها ودفاعها على سيادتها وسياستها الإستراتيجية.
الدولة تعتبر المواطن قاصر وتفرض عليه الرقابة. وقد لعب الهاجس الأمني دور إستراتيجيا في حماية المملكة من الإنصياع وراء ثوراث القومية العربية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي التي أثبت التاريخ فشلها في صناعة مواطن منفتح ومجتمع متماسك. إضافة إلى فشل الإنقلابات العسكرية التي كادت أن تسقط المغرب في مستقبل سياسي وسيادي غامض.
كما جنبت الرؤية الإستباقية الوطن من فتنة ثورات الربيع “العربي”، وقبلها لعبت الآلة الإستخباراتية، وما زالت، دورا مهم في الكشف عن المخططات الإرهابية التي تستهدف زعزعت إستقرار الوطن. وكان للدولة الحارس دور مهم أثناء جائحة وباء كورونا، حيث نزلت أجهزت الدولة بثقلها لضبط إنضباط المواطنين في الإلتزام بالإجراءات الإحترازية خوفا في تفشي الوباء بشكل نفقد مع السيطرة والأرواح، ونجحت في ذلك بتعاون المواطنين بشكل ناجح.
لن ينكر أهمية دور الدولة الحارس في جل المواقف إلا جاحد. لكن مع ظهور نظام العولمة ومجيئ العهد الجديد والقطع مع زمن القمع شهد المغرب إنفتاحا وإنفراجا وتجاوبا بين السلطة والمجتمع، وهبت رياح التغيير على البلاد وجرت عدة مياه تحت الجسر تقلصت معها درجات الإحتقان الشعبي والقلق الإجتماعي، لعبت فيها السلطات العليا دور الريادية في إنجاح الإنتقال الديمقراطي.
الخيط الرابط أو الفاصل بين الدولة الدركية والإجتماعية، هو مرحلة تقاسم السلطة والتناوب السياسي وعهد الإنصاف والمصالحة الذي عرف طي ملف الإنتهاكات الحقوقية والمرور نحو سلطة الإنصات لهموم المواطنين.
سطع نجم المملكة على الصعيد الدولي بنجاعة إختياراتها السياسية أمام تدهور وتشتت الأوضاع بالوطن العربي، بدأ بالجارة غربا وصولا للسوداني واليمن شرقا، وفشل وإنهيار الأنظمة البعثية والقومية الإنقلابية في جل الدول العربية.
وبذلك أصبح المغرب بتعليمات عليا ينحو منحى الدولة الإجتماعية Etat Providence، دولة أكثر حرية وضامنة للحقوق، ممارسة للشفافية، وأكثر ديمقراطية. وما يميز الدولة الإجتماعية هو كونها أكثر حضانة للفئة الهشة، تعمل على تدويب الفوارق الطبقية، وتوفير رعاية وتوازن إجتماعي للمواطنين. ومع التوجه نحو خوصصة بعض القطاعات الحيوية، سعت الدولة لحماية رعاياها من هيمنة إقتصاد السوق. وغلبة التوحش الرأسمالي.
بل أطلقت الدولة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كإجراء إستراتيجي لضخ تمويلات في صناديق المجتمع المدني لدعم المشاريع الموجهة للفئة الأكثر حاجة.
وتبنت الحكومة الحالية شعار الدولة الإجتماعية. وما فرض التغطية الصحية على الجميع، والدعوة للإنخراط في التأمين الإجباري على المرض، وتوسيع قاعدة صندوق التقاعد ليشمل المهن الحرة، وتخصيص الدعم المالي المباشر للأسر الهشة، والبرنامج التربوي تيسير، وإعانات الأرامل ومؤخرا دعم العائلات ذوي أطفال متمدرسين عند الدخول المدرسي، وإجراءات أخرى مماثلة إلا درب من دروب الدولة الإجتماعية.
إلا أن هذا الشكل من الدعم المباشر فيه نوع من تملص الدولة من مسؤوليات إحتضان المواطن، وجعل الدعم مسألة فردية توجه للمعني وتسقط عليه المسؤولية. ففي فرنسا مثلا، حيث تظهر تحمل الدولة مسؤولية الحماية والرعاية الإجتماعية يستفيد المواطنون من بطائق تشمل الرعاية الصحية ومجانية عدة خدمات إجتماعية وإعانات لسد الهوة الحاصلة بين الأجور والإرتفاع المتتالي لمستوى المعيشة.
وفي خضم هذا التحول السياسي والمجتمعي، ظهر دور المجتمع المدني كفاعل محوري في تحمل جزء من المسؤولية لربط جسر التواصل بين الدولة وفئات المجتمع، كمخاطب أساسي لتقريب المخططات الإجتماعية للمواطن خاصة في المناطق النائية والأكثر هشاشة والأقل إنصافا، وكوسيلة لتدارك التأخر الحاصل على مستوى التنمية البشرية لعدة عقود. وكآلية أكثر قربا من المواطنين وأكثر ثقة ومعرفة بحاجيات وإنتظارات الساكنة الميدانية.
وظهر دور الجمعيات أثناء زلزال الأطلس حيث أبهر العالم التنسيق الميداني الجمعوي للتخفيف من آثار الكارثة على المتضررين من زلزال الأطلس. كما تعتبر الفترة الرمضانية وقفف الإعانات للعائلات التي تعم المناطق الهشة أحد المحطات التي تبرز قوة الفاعل الجمعوي في التأطير والتدخل السريع ميدانيا.
هنا أصبح للجمعيات والفاعل المدني في أعين المواطن دور أهم من المنتخب الفاقد للثقة، والسياسي المنهزم، والحزبي الإنتهازي. إنتصر الجمعوي وحل أحيانا محل المؤسسات الرسمية بإلتزاماته، بعمله التطوعي، وبقربه الميداني للمواطن، بشفافية معاملاته وبإيمانه القوي بالقضية التي إرتبط بها. أصبحت الجمعيات تتقاسم المسؤوليات مع السلطة لضخامة الحاجيات وعدم قدرة القطاعات الوصية على تغطية الخصاص الحاصل على المستوى الإجتماعي.
إلا أن الشعرة الفاصلة بين الدولة الإجتماعية والفاعل الجمعوي، وهو تهجس الجهات الوصية من حلول الجمعيات محلها، وتوسيع الهوة بين المواطن والجهات الرسمية، وفقدان الثقة في المؤسسات. لذا تعرف بعض الجمعيات النشيطة ميدانيا بعض العراقيل وتوضع أمام تنفيذ أنشطتها تعجيزات بيروقراطية.وفي غياب دولة إجتماعية متكاملة ‘تظل علاقة الفعل المدني بالدولة علاقة مشوبة بالحذر و عدم الثقة. لأن الدولة تخشى أن يحل المجتمع المدني محلها في تدبير الشأن العام الشيء الذي يجعل وجودها على المستوى الإستراتيجي موضع سؤال.
وهذا ما يفسر الفرملة التي يتعرض لها الفعل الجمعوي المستقل عن وصاية الدولة و الغير خاضع لتوجيهها و رهاناتها.’
فبدون مزايدات، أثبتت التجربة الجمعوية قوتها ونجاعة تدخلاتها، وكسبت ثقة المستفيدين من خدماتها حيث فشلت بعض الجهات في إقناع المواطن بالحلول الترقيعية.
ليعرف الجميع أن في قلب الفاعل الجمعوي هم وطن، وحب الأوطان من الإيمان.
وإلى حين تؤمن بعض الجهات بحب الوطن، تصبحون على وطننا العزيز.
*رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News