
“الدوارة”: من الرغبة في “القَصْ” إلى الخروج عن “النص”..
- حسن عين الحياة//
إلى حدود الآن، لم أفهم بعد، ونحن على بُعد أيام قليلة من عيد الأضحى المبارك، السرَّ وراء تهافت كثير من المغاربة على “الدوارة”، وكيف يتبادل بعضهم الأخبار، بحماسة طبعا، عن أماكن بيعها بثمن أقل مما يُروَّج له في المقاهي والطاكسيات ومواقع التواصل الاجتماعي.
هل هي الرغبة في أن يعيش هؤلاء أجواء عيد الأضحى كما هي في حالتها الاعتيادية، حيث صلاة العيد والنحر والسلخ والشواء، بالرغم من إلغاء المغرب رسميا شعيرة النحر؟ أم أن هناك رغبة في أن يعيشوا لحظات استثنائية في عيد يشكل عند المغاربة هذا العام حالة استثناء؟ أم ثمة لذة أخرى في “دوارة” تُشوى بخلفية متمردة، دون أدنى اعتبار لجيران تتسلل من تحت أبوابهم روائح “بولفاف”؟
إنني هنا لا أتحدث عن الذين قرروا نحر الكبش خروجا عن السياق العام الذي يعيشه المغاربة، ولن أخوض في مخالفتهم للقرار الرسمي للبلاد… ولن أُضيِّع معهم “الحجرة” طبعا، ليقيني أن أي فعل من هذا القبيل هو، في آخر المطاف، عدم استجابة لقرار ملكي رحب به المغاربة بالإجماع.
وبالتالي، “اللي ذبح” فهو في نظري خرج عن الإجماع، وضرب المقاصد الكبرى من إلغاء شعيرة النحر في “الزيرو”، مادام أن أمير المؤمنين سينوب عن أمته في ذبح الأضحية.
إنني هنا أتحدث عن “الدوارة” التي أصبح لها فجأة أتباع ومريدون، وكيف قفز ثمنها فجأة من 150 و200 درهم إلى 600 و700 درهم، وربما سيرتفع سعرها أكثر خلال الأيام القليلة القادمة. وأتباعها، كما تعلمون، ليسوا من الطبقة البورجوازية، ولا حتى من الطبقة المتوسطة، وإنما هم من عامة الناس ممن يقبعون أسفل هاتين الطبقتين.
والسؤال المحير، طبعا، هو: لماذا، رغم هذا الارتفاع الصاروخي في ثمن “الدوارة”، ثمة إقبال جنوني عليها؟ علما أن أغلب الذين اشتكوا بالأمس من ارتفاع ثمن الحولي، وشعروا بالحرج، هم من يُقبلون على اقتناء “الدوارة” اليوم.
تتذكرون أنه في أواخر فبراير الماضي جاء القرار الملكي بإلغاء شعيرة نحر الأضحية لهذا العام، حتى يضع حدا للحرج الذي يشعر به كثيرون وهم يقفون على عتبة العجز، بين ما تفرضه الشعيرة وما تسمح به القدرة.
وكان القرار، في جوهره، دعوة صريحة إلى تخفيف التكاليف عن الناس، لا من باب التساهل في الدين، وإنما من باب الفقه في أحوال العباد والظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد، والرأفة بالمواطنين الذين لم يعد في استطاعتهم مجاراة طقوس وأساليب السوق التي تُنهك جيوبهم، وتُثقل كاهلهم، خاصة في ظل اشتداد وطأة الجفاف والتناقص المهول في رؤوس الماشية.
ومع ذلك، لم يمضِ وقت طويل حتى طفت على السطح ظاهرة غريبة.. تهافت غير مسبوق على اقتناء “الدوارة” التي لم تكن تساوي شيئا قبل العيد، حتى أصبح ثمن “الكرشة” وشحمة “بولفاف” والرئة وما جاورها من قلب وكبد، أغلى من “نص حولي” في بعض الأسواق. والأشد غرابة هو أن هذا التهافت جاء من قبل الفئات نفسها التي عبرت، بمرارة أمس، عن عجزها عن اقتناء أضحية العيد.
وهنا أتساءل، مثل كثيرين: ما الذي يدفع فئات هشة “كتطلب غير التعادل” إلى السقوط في هذا التناقض؟ وكيف تعلن العجز عن اقتناء الكبش، ثم تسابق الزمن لاقتناء “كرشته” ورئتيه وكبده؟
والأكثر من ذلك، كيف نرفع شعار مقاطعة “شناقة الحولي”، بينما نقبل، بصمت مطبق، وباستسلام أيضا، على التطبيع مع شناقة جدد، لا يقلون جشعا، ممن وجدوا في “الدوارة” سوقا بديلة لأرباحهم الموسمية؟
إن هذا التناقض يعبر عن إشكالية أخلاقية عميقة.. كيف لمجتمع يرفع صوته ضد الغلاء، ويشتكي من جشع “الشناقة”، أن يرضخ لنفس آليات المضاربة حين تكون مرتبطة بـ”القَص” والعادة؟
لماذا ننتفض ضد ارتفاع ثمن الأضحية، ونصمت أمام ارتفاع أسعار أحشائها؟
إن هذا العيد، في حالته الاستثنائية هذه، يشكل فرصة حقيقية لإعادة ترتيب العلاقة مع الشعائر الدينية، ولاستعادة القيم المتضمنة فيها، بعيدا عن مظاهر “بُّخْ” والتفاخر والمبالغة.
لقد كان من الممكن أن يتحول “العيد الكبير” إلى لحظة تأمل في المعاني الكبرى، حيث التضامن والرحمة، والزهد، والقناعة، وصلة الرحم. لكن الذي حدث، أو ما بدأ يحدث فعلا، هو محاولة مضادة، لا شعورية، لاستعادة مظاهر العيد، ولو مُجتزَأة، عبر “الدوارة”، وكأننا بذلك نُسكت الحنين لـ”البولفاف الموسمي”، ونُرضي العادة، ونكبح الحرج الاجتماعي، ونُغذي وهم التميز بأننا خرقنا الإجماع.
إن هذا التهافت على “الدوارة” سيولد دون شك عدوى التهافت أيضا، ما سينتج عنه تهافت جنوني آخر على توفير “الدوارة” بكثرة في الأسواق، حتى تُلبى الحاجة المتزايدة إليها.
وبمعادلة حسابية، فإن كل “دوارة” معلقة عند جزار في الأسواق، في المدن أو البوادي، أو “مْكمّدة خَزْنة في كاغط تاع البصلانة”، تعني أن كبشا أو “حولية” قد ذُبحا خارج الإطار المسموح به قانونيا.
والذبح هنا يعني إفشال مخطط “إعادة تكوين القطيع”، الذي رُصِدت له قبل أيام ملايير الدراهم.
وهنا قد يقول قائل: قد تكون “الدوارة” لكبش مستورد. وأنا أقول: “منين دازت لبرا يدوز الخيط”، أي أن السكين الذي سينحر المستورد، قد ينحر المحلي بأضعاف، عملا بالمثل القائل: “في وجه السكة يدوز التران”، و”دوزو بخير”.

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News