
الحوار سبيلًا إلى المستقبل: قراءة في مشروع طه عبد الرحمن الفكري
- بقلم: حسن كرياط//
في زمن تتسارع فيه التحولات الفكرية وتتعمق فيه الأزمات الثقافية، يبرز كتاب “حوارات من أجل المستقبل” للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن بوصفه إسهامًا مميزًا في صياغة خطاب فلسفي إسلامي جديد، ينظر إلى الحوار لا كوسيلة تواصلية فحسب، بل كمرتكز وجودي ومعرفي وأخلاقي.
فالكتاب لا يضم مجرد مقابلات أو آراء عابرة، بل يُمثّل مشروعًا فكريًا متكاملًا يُعيد من خلاله طه الاعتبار للحوار بوصفه أداة أصيلة في إنتاج المعرفة وتوسيع مدارك الفهم، بما يتجاوز الطرائق الأحادية في التفكير.
يرى طه عبد الرحمن أن الحوار لا يُختزل في تبادل المواقف، بل هو ممارسة عقلية وأخلاقية في آن واحد، تُشكّل العلاقة بين المتكلمين مثلما تُشكّل الحقيقة جوهر القول.
ولذلك، يصبح التفكير المشترك في سياق تفاعلي أعمق أثرًا من التفكير المنعزل، إذ يسمح للذات بأن تنفتح على الآخر وتعيد تعريف حدودها في ضوء التفاعل، لا في عزلة المنطق المجرد. ومن هذا المنطلق، ينقل طه الحوار من حيز الأدوات إلى أفق المقاصد، حيث يُنظر إليه كبنية حيوية للتجديد الفكري ولإعادة بناء العلاقة بين الذات والآخر.
وفي هذا السياق، يُقدّم نقدًا جذريًا لبعض التصورات الغربية التي تُفرغ الحوار من محتواه القيمي، فتحوله إلى عملية تقنية فاقدة للبعد الأخلاقي والروحي.
وهو ما يدفعه إلى التأسيس لفهم بديل يتجاوز نماذج الحوار التي تقوم على الصراع أو الهيمنة أو المحايدة الباردة، لصالح نماذج تؤسس للتواصل الفعّال، النابع من الاعتراف المتبادل، والانفتاح على إمكانات التجديد من الداخل.
ومن القضايا التي يتوقف عندها طه عبد الرحمن بنفَس نقدي عميق مسألة التعامل مع التراث. فهو يرفض الجمود الذي حوّل النصوص إلى قوالب جاهزة، ويدعو إلى قراءتها بروح تجديدية تراعي الزمان والمكان دون أن تُفرّط في الجذور المعرفية.
كما يُميز بين نوعين من الترجمة: الأولى نقلية، تكتفي بإعادة قول النص بلغة أخرى؛ والثانية تفاعلية، تتعامل مع النص ككائن حيّ، يُعاد بعثه في سياق جديد يحافظ على روحه ومعناه دون بتر أو تشويه.
وفي خضم هذا البناء النظري، يدعو طه عبد الرحمن إلى تجاوز ما يسميه بـ”العقلانية المجردة”، وهي تلك التي تقتصر على التحليل المنطقي الصرف وتُهمل البعد الإنساني، نحو “عقلانية حوارية” تُؤسّس للمعرفة من خلال المقاصد والقيم.
إنها عقلانية تتعامل مع الإنسان ككائن تواصلي، لا كآلة تفكير صماء، وتعيد للفكر بعده الأخلاقي، بوصفه موجّهًا للفعل ومؤطرًا للعلاقات، لا مجرد نظام رمزي مغلق.
من هنا، لا يبدو كتاب “حوارات من أجل المستقبل” كأطروحة فلسفية نظرية فحسب، بل كخطاب تجديدي شامل يطمح إلى إعادة بناء العقل المسلم على أساس من الحوار، لا على منطق المناظرة العقيمة أو الجدل العقلي المجرد.
فطه عبد الرحمن لا يقترح فقط مفاهيم جديدة، بل يعيد تشكيل طريقة التفكير ذاتها، داعيًا إلى أن يكون المستقبل محمولًا على أكتاف التواصل الأخلاقي والمعرفي، لا على آليات الهيمنة أو منطق الإقصاء.
إن القيمة العميقة لهذا المشروع لا تكمن في أطروحاته فحسب، بل في طريقته المتأنية والمبدعة في مساءلة المفاهيم، وفي جعله من الحوار جوهرًا للتفكير والتجديد معًا. فالفكر، في تصور طه عبد الرحمن، لا يُبنى من خلال التحدي والمغالبة، بل من خلال الإنصات والتجاوب.
هكذا، يفتح أمامنا أفقًا لفهم جديد، يتنفس فيه العقل الأخلاق كما يتنفس المنطق، ويجد فيه المسلم المعاصر سبيلاً للتجدد دون اغتراب، وللانفتاح دون تذويب.

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News