الحوارية جنسا أدبيا أرقى من الرواية بصدد محمد سويرتي
ولد محمد سويرتي بقرية آيت يدين جوار مدينة الخميسات من والد فلاح فقيه حافظ للقرآن وأم ربة بيت٠ تابع محمد سويرتي دراسته وفر من التجنيد الذي حرمه نعمة الوالد جاعلا من المدرسة ملجأه الأول والأخير إذ حذت به دراسته على يد الفرنسيين إلى مزاولة مهنة التعليم٠
فهو يعتبر من الجيل الأول الذي مارس هذه المهنة بمدينة الخميسات٠ تابع دراسته الجامعية بفاس وحصل على دبلوم الدراسات العليا٠
انتقل من التعليم الأولي إلى التعليم الثانوي ثم بعد ذلك إلى مدرسة تكوين المعلمين٠ نال دكتوراه الدولة في الأدب العربي بعد سنة من تقاعده٠
بدأ النشر بظهور قصته “الكفن” بجريدة المحرر. له مجموعة من الكتابات القصصية والدراسات النقدية بمجموعة من الصحف والمجلات: المحرر، الاتحاد الاشتراكي، أنوال، العلم، الفصول الأربعة، المعرفة (سوريا)، دراسات عربية (لبنان)، الحياة الثقافية (تونس)، عالم الفكر (الكويت)…
أصدر النقد الأدبي والنص الروائي (في جزأين). كما ترجم الكتابة بالذات، بصدد بارت/ سوزان سونتاغ. ألف “النحو العربي: من المفاهيم الى الأساليب”. كان موضوع الدكتوراه التي حصل عليها سنتين بعد تقاعده حول الحوارية كجنس أدبي جديد في شمال افريقيا والشرق. : كما ألف “أفلاطون”، “المنهج النقدي”، “المناهج النقدية الحديثة”، “الرواية العربية أو أزمة الحوار في ثقافتنا”.
يتساءل الدكتور محمد سويرتي إلى أي حد تبيح الرواية للكاتب “المبدع” الدفاع عن حرية التعبير، وترسيخ مبادئ التواصل، وغرس أخلاق الحوار، وتجذير قواعد الجدال، وبناء قوانين الحجاج، وتأسيس ضوابط المناظرة، وإنتاج وبنينة روائع تصور الواقع بصدق وأمانة، وتقدم للقارئ، خلافا لروائغه، ثقافة عملية وفعلية تساهم في توعيته بالقضايا الأسرية والاجتماعية، القومية والإنسانية، وتوسع مداركه، ومعارفه، وعلمه عن نفسه وعن الأشياء والناس المحيطين به والبعيدين منه بمختلف أجناسهم، وأصنافهم، ومشاربهم، وفئاتهم، وطبقاتهم الاجتماعية، وأعمالهم، وانشغالاتهم، واهتماماتهم، وابتكاراتهم، ويفسح لديه، حقا، الرؤية الفلسفية الواسعة والشاملة للعالَم بأسره؟
والحقيقة التي تروم مقالته كلها لفت الانتباه إليها، أداة وطريقة، رؤية ومنهجا، هي أن الأصل التكويني لا يأتي في نسق التاريخ، ومجرى الزمان الماضي، وسياق الحياة، وطيات المجتمع وغضون القوم وحسب، بل يمكن البحث عنه متدثرا بغطاءي التراث والحداثة معا؛ على أن ما يحز في النفس عنده، ويبعث على الأسى والأسف هو انشغال بعض الفقهاء والعلماء والمفكرين والفلاسفة بالجانب السلبي، وإهمال بعضهم للجانب الإيجابي منهما؛ وفضلا على ذلك، لا يعي كبارهم سبيل المنهج التقليدي الذي يعتمدونه في كلامهم الشفوي المحدد لحاجاتهم العادية، وكتاباتهم الفكرية والفلسفية والأدبية ظنا منهم أنه منهج إيجابي نتائجه أكيدة لا يتطرق الشك إليها أبدا.
والسؤال المحير بالنسبة اليه هو: أي المنهجين أضمن للعدالة، والمساواة، والحق في الكلام، والحرية في التعبير، والديمقراطية قي تقسيمه بين الناس في الإبداع الأدبي، والنقد الأدبي لهذا الإبداع نفسه؟ أهو المنهج السردي أم المنهج الحواري في ممارسة الابتكار والخلق الأدبي والتحليل والنقد والتأويل الأدبيين؟
يشرح محمد سويرتي اللغة المسيطرة في الكلام الروائي. و يتساءل أ هي الرواية أو هيمنة الراوي فيها. كما يقدم نماذج من الرواية تكشف أزمة الحوار في شمال افريقيا والشرق. أضف الى ذلك مساهمة النقد الأدبي في تعميق أزمة الحوار في شمال افريقيا والشرق.
يقدم محمد سويرتي “الحوارية” كجنس أدبي جديد أرقى من الرواية يضمن حرية التعبير الأدبي.
عندما يفسح الجال للحوارية سيرى القارئ كيف تهتبل الشخصيات فرصتها في الحوار بحرية واطمئنان على نحو ما يفعله الناس في مأدبة أو ندوة أو مناظرة؛ فكل شخصية منها تتحدث وفقا لنصيبها من الكلام ودورها فيه، ونوبتها منه، وفي حسبانها أنها ستترك لأخرى ما يتوجب عليها من نصيب فيه عاجل ومستعجل.
وهل ثمة علامة أكثر ديمقراطية من الحوارية في الأدب؟ فالشخصية لن تقاطع في الحوارية شخصية أخرى، أو تتحدث سائرة، مستطردة في الكلام، ناسية، في غفلة منها، أو لعدم وعيها، نوبتها ودورها في الحوار إلى السرد المبالغ فيه، السرد الذي يجول ويصول في عالَم الوقائع والأحداث الروائية، فيطغى على نصيب ودور باقي الشخصيات وحقها في الشرح والتفسير والتأويل لما يجيش في صدرها من ألم وحرمان وعذاب وشقاء، ورغبة في الاحتجاج على ما تعانيه من ظلم وجور وسحق، راجية من المبدعين التخلي عن سوط صوت الراوي في الرواية وابتداع ما عرف في الآداب الغربية بالحوارية العادلة والداعية للحرية والمساواة.
والحوارية كتابة أدبية تشكل أفق انتظار الكاتب الحواري الطامح إلى التحديث في الأدب بتجربة كتابية مغايرة لما هو سائد في المجتمع الحالي”.
يضيف أنه ستلعب الحوارية ذلك الدور بفعالية لا تحدها حدود. لنتصور طائرا مقيدا في قفص؛ لو فتحنا هذا القفص لبرهة من الزمن لطار الطائر في الفضاء وعنقه إلى السماء.
وما من مقيد أو معتقل أو مسجون إلا ويهفو للمصير ذاته. كذلك الحوار والحوارية وشخصياتها المتحاورة؛ فكل ذلك يطمح للحرية الداخلية والخارجية، الذاتية والموضوعية، النفسية والسياقية.
وتتضمن السياقية ما هو داخلي في النص الأدبي ونسميه السياق الداخلي، وما هو خارجي عن النص الأدبي ونعني به السياق الخارجي.
وما يحدث في نفس الناقد نطلق عليه السياق النفسي. وهذه السياقات موضوع السياقية.
ولا بد للنقد التداولي من الاستفادة من رؤية ومنهج السياقية في تحليل الخطاب الأدبي أيا يكن شكله ومضمونه. والنقد الأدبي الحواري الذي لا يعير أي اهتمام للسياقية سيكون عرضة للأخطاء الفادحة في تحليل العمل الأدبي شكلا ومضمونا. فالسياقية مشروع تداولي يعنى بالشخصيات وكلامها في سياقات مختلفة. والنقد أو الشعرية السيميائية المتجاهلة أو الغافلة للسياقية في دراستها التداولية الحوارية شعرية ناقصة ونقد غير إجرائي.
يبرز محمد سويرتي ما يمتاز به السارد من “العلم بكل شيء” و”الوجود في كل مكان”، فاستولى بذلك على الكلام من بداية الرواية حتى نهايتها مرورا بوسطها؛ وبذا غدت الرواية صورة معبرة عن حرمان الشخصيات من حرية التعبير، وعلامة صارخة على الضغط والقهر والجور في تعاملنا مع شخصيات أعمالنا الأدبية، وتعامل شخصيات عملنا الأدبي فيما بينها، وتعاملنا نحن فيما بيننا في الواقع الاجتماعي بناسه وإيديولوجياته وأشيائه الطبيعية والصناعية.
فالأشياء التي تحيط بنا، أكانت صناعية (كالأنواع الأدبية مثلا) أم طبيعية، تعبر عن حياتنا واختياراتنا ومواقفنا وسلوكنا مع بعضنا البعض، وحكمتنا، وفلسفتنا، ورؤيتنا الاجتماعية للعالَم.
ففي الوقت الذي تجسد فيه الرواية شكلا من أشكال سلوكنا الرجعي مع بعضنا البعض تضرب الحضارة الغربية في أعماق التمدن والتقدم والتحضر والتحرر، والتناظر والتحاور والتجادل والحجاج إلى أقصى ما تتطلبه العقلانية والعلم والفلسفة والحكمة والجدلية من معرفة في شتى ميادين الفن، ومجالات الأدب، وأبنية وبنيات الجمال الظاهرة والخفية.
هذا، فهو يومئ بطريقة جدلية إلى نوع أدبي جميل يحل محل الرواية دون نسيانها ألا وهو الحوارية، لا كما رآها العالَم الشرقي والعالَم الغربي متدثرة بالمفارقة الصارخة لما صهرها مع الرواية في بوتقة واحدة. وظهرت الرواية والحوارية كأنهما توأمان مندمجان في جسد واحد لا ينفصل عنه سوى عنقيهما ورأسيهما النابعين من كتفيه.
فالرواية شيء، والحوارية شيء آخر بالرغم من الذكرى الجميلة التي تحتفظ بها لها. وقد عاشت الرواية عمرا يمتد حتى القرن الخامس عشر الهجري، أو القرن الواحد والعشرين المسيحي، ولا تريد البتة مزيدا عليه. فالحوار، حسب ما أوضحه فقهاء وعلماء وفلاسفة الإسلام ومفكروه، يتبوأ مكانة مرموقة في الحضارة الإسلامية التراثية والحداثية؛ فما يمنعنا من أن نتخذهم أسوة في فقهنا وعلمنا وفكرنا وفلسفتنا وأدبنا الحالي؟
- بقلم زهير سويرتي.
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News