الثقافة

الجيلالي فرحاتي:  السينما…أولا

  • محمد بكريم//

فيلم جديد لجيلالي فرحاتي لحظة تستدعي “وقف الصورة” لتفعيل التفكير في مشهدنا السينمائي. طبعا بدء عرض فيلم “حرب الستة أشهر” – فيلمه الطويل الثامن أو التاسع- يأتي في إطار ما تعرفه السينما المغربية من حيوية إنتاجية تسمح بظهور ما معدله فيلم جديد الى فيلمين في الشهر. غير أن فيلم فرحاتي في هذا السياق يسمح بإدخال نوع من التوازن في المشهد السينمائي الذي يخضع لسيطرة جنس الكوميديا 99%: من الأفلام المغربية المقترحة في المركب السينمائي الذي احتضن العرض الأول للفيلم تنتمي لتيار الكوميديا الشعبية المحمولة بنجوم بعضها قادم من خارج السينما. معطى يستحق الانتباه رغم انشغال الراي العام السينمائي بالمهرجانات التي تتناسل يوميا على حساب أي تفكير نقدي وخارج أي وعي تاريخي…

نعم “حرب الستة أشهر” فيلم استمرار وقطيعة. استمرار المخرج على درب اختاره منذ أفلامه الأولى والذي نلخصه بعنوان “السينما أولا”. وقطيعة مع خط الاستهلاك السريع للصور الذي تفاقم مع العصر الرقمي.

سينما فرحاتي دعوة لفهم السينما كتجاوز فني للواقع المعيش. أفلامه مقترح سينمائي يدعو المشاهد الى الانتقال من الواقع المباشر (أفلامه تقارب قضايا إنسانية عميقة) الى واقع آخر أكثر جمالا أو اقل قبحا.

مدخل ذلك المشروع أفلام بمثابة أجنحة تحلق بخيال المتلقي وتحرره من سجن الزمن / اللحظة. ولعل هذا ما يشكل محور فيلمه الجديد. تأسيس لمعطى يساعد على فهم الفضاء السينمائي كمزيج من الواقعي والمتخيل. في تركيب ينتقل بالمتلقي من “المعلوم” (المرئي) الى المجهول (المتخيل/ خارج المجال). من المجهول المعلوم الى مجهول جديد. “حرب الستة أشهر”.

لحظة سينمائية بامتياز تتجلى في بنية سردية/زمنية متشابكة، متوترة، مضادة للزمن الكرونولوجي (ساعة الجدار التي لا تشير لأي توقيت)، بنية زمنية “بروستية” (نسبة للروائي مارسيل بروست) حيث الماضي يقتحم الحاضر بدون اذن (ليس فلاش باك كلاسيكي بل تواتر.

ومضات تأتي من عمق من الذاكرة) كمدخل لصبر غوار علاقات انسانية متشابكة متوترة بتعدد انتماءاتها …وحاملة في نفس الوقت لأنبل القيم …مع ثلة من الممثلين تمت ادارتهم بنجاح. فكان تأكيد لعطاء نجوم معروفة (التلمسي+ موفق+ بوحموش..) واكتشاف لطاقات واعدة (تنويه خاص لريم فتحي) وحضور لافت وأداء معبر للمخرج رؤوف الصباحي…حضور بليغ تلتقطه كاميرا مرافقة، غير ضاغطة لتفسح لهم المجال لتعبيرات متنوعة/ متطورة.. شاعرية وجميلة.

منظومة سينمائية متكاملة ومنسجمة تستدعي اكيد مشاهد – متعاون. قصة من هذا الزمن المعقد (ثلاث مراحل من حياة الشخصيات). عنوان الفيلم قد يحيل الى “حرب الأيام الستة”، الى نكسة جوان 1967 وهي إحالة مشروعة تتأسس على معطيات واردة في الفيلم: كيف نبني علاقة إنسانية جديدة فوق الانتماءات الهوياتية. وضدا على الضغوطات الموضوعية والذاتية. بكثير من التلميح يتحقق التجاوز، وبكثير من العناء وصولا الى حد التضحية من أجل الآخر.

بنية سينمائية تستند الى خلفية وتجربة غنية، انطلاقا من أفلامه الأولى. فهناك فيلم “عرائس من قصب” يستحق أن نتوقف عنده لأكثر من سبب. فمن وجهة نظر التاريخ المؤسساتي للسينما المغربية، فيلم “عرائس من قصب” هو الفيلم الأول الذي تم تتويجه في النسخة الأولى من المهرجان الوطني للفيلم في عام 1982 في الرباط (من 9 إلى 16 أكتوبر).

لقد حصل بالفعل على جائزة الإخراج، حيث لم يكن هناك في ذلك الوقت جائزة كبرى.. ، سينال الفيلم أيضا الجائزة الأولى لأفضل تمثيل نسائي لسعاد فرحاتي في دور عائشة وتنويه خاص للممثلة الكبيرة الشعيبية عدرواي. وهذا يعطي فكرة أولية عن الفيلم الذي يمكن أن يُعتبر الأكثر “نسوانية” في السينما المغربية.

قال فرحاتي ذات مرة: «أحلم بإخراج فيلم صامت تمامًا»، وهي مقولة تلخص في الواقع مفهومًا كاملًا للسينما، وطريقة في تناول السرد السينمائي عمادها الاقتصاد، التكثيف، والذهاب إلى الجوهر من خلال الوسيلة الوحيدة: بلاغة الصورة؛ الصور وتركيبها / توضيبها.

تركيب تعبيري. نحن أمام “عقيدة” حقيقية ظل جيلالي مخلصًا لها، مما مكنه من احتلال مكانة خاصة في المشهد السينمائي المغربي والمغاربي والأفريقي. يمكننا أن نذكر في هذا السياق أن أول فيلم قصير له “سلام مدام” (1974) صامت وأن الشخصية الرئيسية في أول فيلم طويل له “جرحة في الحائط” (1978) أصم وأبكم… تقدم أفلامه تنويعًا حول هذا المبدأ الأساسي: سرد العالم كاستعارة.

عناوين هذه الأفلام هي إشارة أولى: جرحة في الحائط، عرائس من قصب، شاطئ الأطفال الضائعين، خيول الحظ، ضفائر، ذاكرة في الحجز… نحن أمام شبه برنامج يستدعي قراءة موازية غير مباشرة. عناوين ترسم ملامح أفق شاعري. هذه العناوين ترفض الإحالة الى واقع (ما أسميناه “المعلوم”): عرائس من قصب، ثغرة في الجدار، شاطئ الأطفال الضائعين هي دعوة للسفر في الخيال الفردي والاجتماعي قبل أن تأتي مشاهدة الفيلم لتقديم عناصر لتثبيت المعنى.

تثبيت جزئي لأننا في مجال الرموز وليس المؤشرات. باستثناء بدرجة أقل لفيلم “خيول الحظ” و”ذاكرة معتقلة”، فإن عناوين أفلام فرحاتي لا تعلن عن أي برنامج فوري ولا تعطي أي مدخل صريح للسرد الذي سيأتي بعد ذلك؛ في فيلمه الأول، على سبيل المثال، لا يتحدث الأمر عن جدار أو ثغرة (جرحة /حائط)، على الأقل في المقاربة الأولى.

تم انجاز هذا الفيلم سنة 1978 عن سيناريو من كتابته. فيلم تتخلله العناصر الأولى لما سيشكل تدريجياً نظام فرحاتي: اقتصاد في الوسائل وبحث عن تحسين قدرات التعبير عبر الصورة. نظام يظهر أيضًا من خلال اختيار الممثلين، واختيار المكان، وأساسا من خلال لمسة خاصة هاجسها خلق أجواء / مناخ عام للحكاية، ميزة تحضر بقوة في فيلمه الجديد.

“السينما أولا” بما يعني لمسة من الحساسية والشاعرية كعلامة مميزة تساهم في ولوج عوالم ذاتية وحميمية بدون ضغضغة مشاعر المتلقي…بل تسعى لتحفيز ذكائه في رحلة ارتياد المناطق المجهولة في علاقة الذات مع الآخر

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى