التعليم العالي الخاص: شريك استراتيجي لتحقيق التنمية
- بقلم الدكتور كمال الديساوي*//
يلعب التعليم العالي دورًا محوريًا في التنمية الشاملة للأوطان، حيث يُعتبر الوسيلة الأساسية لتطوير الكفاءات والموارد البشرية وإنتاج القدرات المعرفية اللازمة لمواكبة تطور المجتمعات. وفي المغرب، عرف التعليم العالي الخاص نموًا متزايدًا خلال العقود الأخيرة ليصبح أحد المكونات الرئيسية للنظام التربوي التعليمي. بحيث يعكس هذا التطور حاجة ملحة للتكيف مع الطلب المتزايد على التعليم العالي وتلبية متطلبات سوق الشغل الضطربة، خاصة في ظل الاقتصاد العالمي الذي يعتمد بشكل متزايد على المعرفة والابتكار والتكنولوجيا.
لن يختلف إثنان، أن التعليم العالي الخاص في المغرب ساهم بشكل ملحوظ في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وذلك من خلال استثمار الطاقات الشابة في برامج تعليمية مبتكرة وشراكات استراتيجية مع القطاع الخاص. في ظل هذا المشهد، أصبح التعليم العالي الخاص أكثر من مجرد أداة لتخريج الطلبة، بل بيئة حاضنة للابتكار والبحث العلمي الذي يركز على مواجهة تحديات المجتمع المغربي ودفع عجلة التنمية المستدامة، وهذا ما يدافع عليه مؤسسو التعليم العالي الخاص، ليس فقط المنظور الربحي ظاهر للبعض، بل برؤية شمولية مندمجة.
المحور الأول: التعليم العالي الخاص في المغرب: النمو والمؤشرات:
خلال العقدين الأخيرين، شهد التعليم العالي الخاص في المغرب نموًا كبيرًا في عدد المؤسسات التعليمية. هذا التطور لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة لتوجيهات سياسية واقتصادية تعكس رؤية واضحة لتطوير النظام التعليمي. تشير الإحصاءات الرسمية الصادرة عن وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي إلى أن عدد مؤسسات التعليم العالي الخاص ارتفع من حوالي 160 مؤسسة في 2010 إلى ما يقرب من 240 مؤسسة في عام 2023، بزيادة تقارب 50%. هذا التوسع يعكس رغبة متزايدة في تحسين فرص الحصول على التعليم العالي وتلبية الطلب المتزايد من قبل الشباب المغربي.
1. زيادة عدد المؤسسات التعليمية:
شهدت السنوات الأخيرة توسعًا في عدد المؤسسات الخاصة التي تقدم برامج تعليمية تتنوع بين التخصصات التقنية، العلمية، والإدارية. وهنا يجب تسجيل ملاحظة مهمة أن هذا الحضور للجامعات الخاصة لم يكن مقتصرًا على مدن مثل الرباط والدار البيضاء، بل امتد ليشمل مدنًا أخرى مثل مراكش وفاس وطنجة، وأكادير. هذه الزيادة تأتي استجابة للحاجة إلى مزيد من المرونة في النظام التعليمي المغربي، ولتخفيف الضغط على الجامعات العمومية التي تواجه تحديات أخرى.
2. نمو عدد الطلبة بمؤسسات التعليم العالي الخاص :
تشير الإحصاءات إلى أن حوالي 15% من الطلبة المغاربة، أي ما يقرب من 130,000 طالب من إجمالي 860,000 طالب، يدرسون في مؤسسات التعليم العالي الخاص. هذه النسبة تعكس الانتباه التدريجي للقطاع الخاص كخيار تعليمي يتوافق مع طموحات الطلبة وأسرهم، خصوصًا في ظل تحسن مستوى التعليم في العديد من المؤسسات الخاصة. كما أن هذا التحول يعكس قدرة التعليم الخاص على تقديم برامج تعليمية متخصصة تواكب تطورات سوق الشغل.
3. التنوع الجغرافي والمؤسساتي:
تشمل المؤسسات الخاصة في المغرب مجموعة متنوعة من المؤسسات والجامعات والمعاهد التي تقدم برامج تعليمية مختلفة، من البكالور إلى الدكتوراه، وتشمل تخصصات مثل الهندسة، الطب، إدارة الأعمال، والفنون والاقتصاد والهندسة المدنية وغيرها هذا التنوع يساهم في توفير بدائل متعددة للطلبة الباحثين عن تعليم متكامل وشامل في بيئات تعليمية متطورة.
المحور الثاني : دور التعليم العالي الخاص في الابتكار:
لا شك أن الابتكار يعد جزءًا أساسيًا من نظام التعليم العالي الخاص في المغرب. ومع التحديات التي يفرضها الاقتصاد المعرفي، أصبح من الضروري أن يتم تطوير برامج تعليمية جديدة تتوافق مع المتطلبات الحديثة للأسواق المحلية والدولية.
1. تطوير برامج تعليمية متخصصة:
تتميز مؤسسات التعليم العالي الخاص في المغرب بقدرتها على التكيف مع متطلبات السوق، حيث تم إدراج تخصصات حديثة مثل الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، وعلوم البيانات ضمن برامجها. هذه التخصصات ليست مجرد مجالات دراسية نظرية، بل تعتبر مخرجات عملية تحاكي الاحتياجات المتزايدة لسوق العمل في المغرب وخارجه، مما يجعل الخريجين أكثر تنافسية على المستوى العملي.
2. الشراكة مع القطاع الخاص:
من بين أبرز عوامل نجاح التعليم العالي الخاص في المغرب هو الشراكة الوثيقة بين المؤسسات التعليمية والشركات الكبرى. تتيح هذه الشراكات للطلبة فرص التدريب المهني، مما يعزز من قدراتهم العملية ويفتح أمامهم آفاقًا أوسع في سوق الشغل. وفقًا لدراسة صادرة عن المركز المغربي للدراسات الاقتصادية في عام 2022، فإن أكثر من 70% من طلبة التعليم العالي الخاص يحصلون على فرص تدريبية أثناء فترة دراستهم، مما يزيد من قابليتهم للتوظيف بعد التخرج.
3. الاستثمار في التكنولوجيا:
أدركت مؤسسات التعليم العالي الخاص أهمية التكنولوجيا في تحسين جودة التعليم، وقامت باستثمارات كبيرة في البنية التحتية الرقمية. من خلال منصات التعليم عن بعد والأنظمة التعليمية المدمجة، تمكنت هذه المؤسسات من تقديم تجربة تعليمية متقدمة. ساهمت هذه التكنولوجيا بشكل كبير في تخطي تحديات جائحة كورونا، حيث تمكنت مؤسسات التعليم العالي الخاص من ضمان استمرارية التعليم بفضل التعليم الرقمي.
المحور الثالث: البحث العلمي والابتكار في التعليم العالي الخاص:
التعليم العالي الخاص في المغرب ليس فقط محصورًا في التعليم الأكاديمي التقليدي، بل يشكل أيضًا منصة لتطوير البحث العلمي وتعزيز الابتكار في مختلف المجالات.
1. تمويل البحث العلمي:
بادرت بعض الجامعان الخاصة بإنشاء صناديق دعم البحث العلمي، والتي تساهم في تمويل المشاريع البحثية الموجهة نحو حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. على سبيل المثال، قامت المدرسة المغربية لعلوم المهندس بتخصيص موارد كبيرة لدعم الابتكار التكنولوجي، حيث يتم تشجيع الطلبة على تنفيذ مشاريع بحثية في مجالات الهندسة والطاقة.
2. دور حاضنات الأعمال:
توفر مؤسسات التعليم العالي الخاص بيئة مناسبة للابتكار من خلال حاضنات الأعمال التي تمثل منابر لدعم الأفكار المبتكرة والمشاريع الريادية. في عام 2023، دعمت حاضنات الأعمال التابعة للجامعات الخاصة حوالي 150 مشروعًا رياديًا، مما يعزز من روح المبادرة لدى الشباب.
3. المؤسسات الخاصة كمراكز للابتكار:
بعض المؤسسات التعليمية الخاصة أصبحت مراكز ابتكار في حد ذاتها. المدرسة المغربية لعلوم المهندس EMSIمثلًا، لا تقتصر فقط على تقديم التعليم الأكاديمي، بل تشجع طلبتها على تقديم حلول مبتكرة للتحديات التي تواجه المجتمع المغربي. مختبر “SMARTiLab” هو أحد الأمثلة الناجحة للمؤسسة والشاهدة على هذا النوع من الابتكار، حيث فاز بجوائز دولية بفضل الاختراعات التي قدمها طلبتها تحاوز في السبع سنوات الأخيرة ثمانون ميدالية ذهبية في معارض دولية كبيرة للاختراعات والابتكارات .
المحور الرابع: الإدماج الاقتصادي والمهني لطلبة التعليم العالي الخاص:
يمثل التعليم العالي الخاص قناة فعالة لإدماج الطلبة في سوق العمل بشكل سريع وفعال.
1. فرص العمل:
تشير التقارير إلى أن نسبة توظيف خريجي مؤسسات التعليم العالي الخاص تصل إلى حوالي 85% في مدة تتراوح بين 6 إلى 12 شهرًا بعد التخرج، مقارنة بنسبة أقل في التعليم العام.
2. التأهيل المهني:
تركز مؤسسات التعليم العالي الخاص على التأهيل المهني للطلبة من خلال توفير فرص تدريبية واسعة في شركات كبرى. تساعد هذه الفرص على اكتساب المهارات العملية الضرورية، وتفتح الأبواب أمام الطلبة لدخول سوق العمل بمهارات تتوافق مع المتطلبات الحديثة.
3. الاندماج في المشاريع الناشئة:
يعتبر قطاع المشاريع الناشئة من أبرز المجالات التي يستفيد منها خريجو مؤسسات التعليم العالي الخاص. فبحسب دراسة أجرتها الجمعية المغربية لريادة الأعمال في 2023، حوالي 40% من الخريجين من المؤسسات الخاصة يعملون في مشاريع ناشئة، سواء في المغرب أو على المستوى الدولي.
المحور الخامس: التعليم العالي الخاص والتنمية المستدامة:
التعليم العالي الخاص يشكل ركيزة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة في المغرب من خلال تركيزه على الابتكار وريادة الأعمال.
1. مساهمة التعليم الخاص في التنمية:
يلعب التعليم العالي الخاص دورًا رئيسيًا في دعم القطاعات الاقتصادية الحيوية مثل الطاقة المتجددة، التكنولوجيا، والبيئة. من خلال هذه المساهمات، يمكن للتعليم الخاص أن يكون شريكًا استراتيجيًا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة في المغرب.
2. ريادة الأعمال:
تعزز مؤسسات التعليم العالي الخاص روح الابتكار لدى الطلبة وتدعمهم لتطوير مشاريع ريادية تساهم في خلق فرص عمل جديدة، مما يعزز من قدرة الاقتصاد المغربي على التكيف مع التغيرات العالمية.
3. الابتكار كوسيلة لتحقيق التنمية المستدامة:
من خلال البرامج التعليمية المتطورة، والبحث العلمي، ودعم ريادة الأعمال، يسهم التعليم العالي الخاص في بناء مجتمع معرفي قادر على مواجهة تحديات المستقبل.
في الختام، يمثل التعليم العالي الخاص في المغرب ركيزة أساسية في تحقيق التنمية المستدامة، فهو ليس مجرد وسيلة لتوفير تعليم متقدم، بل هو محرك حقيقي للإبداع والابتكار وتعزيز روح ريادة الأعمال.
من خلال تقديم برامج تعليمية متخصصة ومتطورة، ومواكبة التوجهات التكنولوجية والاقتصادية، يسهم هذا القطاع في إعداد كوادر بشرية قادرة على مواجهة تحديات المستقبل والمشاركة الفعالة في بناء اقتصاد وطني قوي ومستدام. ولضمان استمرارية هذا الدور الريادي، يبقى الاستثمار المستمر في التعليم العالي الخاص ضرورة ملحة، حيث ينبغي التركيز على تطوير البنية التحتية، وتحسين جودة البرامج التعليمية، وتعزيز الشراكات مع القطاعات الاقتصادية المختلفة لضمان تزويد الطلبة بالمهارات والمعارف التي تؤهلهم للمساهمة في تنمية البلاد وتعزيز تنافسيتها على الصعيدين الإقليمي والدولي.
*بقلم الدكتور كمال الديساوي رئيس مجموعة مدارس المدرسة المغربية لعلوم
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News