التحول الاجتماعي بين الحتمية وامكانية تعديل المسار
كلما تم التفكير في تغير المجتمع، إلا و حضر مفهوما الفردي و الجمعي حضورا قويا وجعل من التساؤلات متتالية تكاد لا تنتهي، بالخصوص حول ما يتعلق بعلاقة التأثير و التأثر بينهما من جهة و بين كل واحد منهما و التغير من جهة ثانية. و إذا كان التحول حتمية لا يمكن الصمود أمامه، فإن امكانية توجيهه قد تكون ممكنة و فرص تدبيره محتملة. بيد أن الاستخفاف به و عدم الانباه إليه، يمكن أن يجعل من المجتمع برمته دوارة هواء، أفراده كجماعاته لا وجهة نظر لهم و لا تصور.
و ينبغي التذكير كذلك، بأنه كلما كان التغير بطيئا، كلما استوعبته جماعات وأفراد المجتمع و كلما كانت آثاره الجانبية ضعيفة. على العكس من ذلك، عندما تكون سرعة التغير كبيرة، يكون زمن الاستيعاب غير كاف و تكون مضاعفاته بالغة.
لنستهل، إذن هذه المقالة بمجموعة من تجليات قد يكون التوافق بصددها، و هي عبارة عن نماذج ممارسات اجتماعية يمكن لكل مراقب معاينتها بدون عناء في المجتمع المغربي. يظهر التغير جليا على مستويات مختلفة، فكل زاوية يتم النظر منها، إلا و تبين أن التحول قد لحق المجتمع و تكشف ملامح مخالفة لما كان عليه سابقا.
في الأسرة مثلا، لم تعد الأواصر وطيدة و لم تعد الروابط قائمة؛ قلّت الزيارة و ضعُفت المؤازرة بين بنات و أبناء نفس البيت. اندثرت الأسرة الممتدة و انتشرت الأسرة النووية ؛ تبدّلت اساليب التربية و تراجعت العناية بالتنشئة الاجتماعية. تعززت استقلالية الزوجين بعضهما عن بعض، و نمت استقلاليتهما معا عن أسرتيهما. تدنت رمزية المؤسسة و بدأت بوادر نوع جديد من الأسر تلوح في الأفق (famille monoparentale).
على مستوى السلوك، يحتار الملاحِظ من تصرفات بعض الأفراد؛ تراهم يتغيبون عن العمل متجاهلين الواجب من أجل الحضور إلى المسجد باكرا و بساعات قبل دخول وقت الصلاة في بعض الأحيان. عند ولوجهم المسجد، يتسابقون بغية التواجد في الصفوف الأمامية دون التزام بمبادئ و أصول الدين، لا يهتمون بجالس و لا يكترثون بواقف. عند الخروج بعد الانتهاء من الصلاة، يتصرفون بخشونة و قسوة، لا ينتبهون لمريض و لا يشفقون على مسنّ، يعاملون الناس بعنف و شدة و كأن الخطيب لم يتحدث لا عن مودة و لا ورحمة!.
على مستوى التعامل اليومي، لم تعد قيم الكبرياء و عزة النفس حاضرة، و لم تعد النزاهة و الصراحة مناسِبة. ترى البعض بالرغم من فيض ثرواتهم يضايقون المحتاجين في مناسبات توزيع الاعانات و تقديم المساعدات، يتحايلون في تقديم معلوماتهم الشخصية من أجل إبقاء مؤشر السجل الاجتماعي في مستويات منخفضة حتى يتمكنوا من الاستفادة من دعم مخصص لغيرهم ممن هم في حاجة ماسة إليه، أولئك الذين يعيشون الهشاشة في كل أبعادها.
و ترى كذلك بعض المثقفين الذين تُفترض فيهم النزاهة و الاستقامة، و الذين ينبغي أن يعول عليهم في رفع التحديات المطروحة و لعب أدوار طلائعية في المجتمع، يسلكون سبلا ملتوية و يلجؤون إلى ممارسات غير مشروعة و أفعال فاسدة من أجل الظفر بمكافآت و جوائز ليسوا أهلا لها ! علاوة على ذلك، يسمحون لأنفسهم و بشجاعة كبيرة و بجرأة محرجة، للحديث عن الموروث المغربي المشترك مسجلين ضمنه صفقاتهم و كأن المغاربة في وقت سابق كانوا يتصرفون بغير فخر و يتعاملون بدون أمانة و يرضون بالخفض و المهانة.
في السابق، لما كانت القيم السائدة تستهدف الحرية و الكرامة، كان التشهير مهانة و مذلة، و لم يكن يقبل به أحد. أما اليوم، و قد أضحى شأن الشخص و قيمته يتعلقان بعدد مشاهدات محتوى رقمي معين، فإن الشخص يَقْدم بنفسه على إفشاء سره و تشويه سمعته والكشف عن حميميته بل و الطعن في شرفه. أصبح عدد المشاهدات رمز الشهرة و الفخر و المجد و السمو، بينما الشرف و الكرامة و النبل ليست سوى مجرد عبارات لا أهمية لها ولا قدر.
هكذا، و بتبدل اللياقة و الأخلاقيات، تكون المنظومة الفكرية في المجتمع المغربي قد لحقها التحول كذلك، لأن السلوك ليس سوى تجل للفكر، و بقدر انتقال السلوك يكون الفكر قد انتقل و تغير و بذلك يكون الظاهر( السلوك) مؤشرا يدل على سمة و ذات المضمر( الفكر). في هذه الحالة، إذا لم يتم التفكير بجدية في المسألة و بشكل لا يقبل التأجيل لإيجاد صيغ ناجعة لتقويم المسار، فإنه قد يصعب الاصلاح عند ترسيخ العقلية المستجدة. عقلية يستحيل التنبؤ بنمطها و بدرجة خطورة أسلوبها، خصوصا و أن المؤسستين- المدرسة و الأسرة- اللتين تحملان على عاتقهما مسؤولية التنشئة الاجتماعية بالدرجة الأولى توجدان في أزمة. فالمدرسة ، بالرغم من توالي محاولات الاصلاح لم تجد عافيتها بعد، و الأسرة توجد في وضعية صعبة تمر من مرحلة انتقالية، تتقاذفها أمواج سوق الشغل و القدرة الشرائية ما يتنج عنهما من آثار نفسية على أرباب وربات الأسر. لذلك يبدو ضروريا تدخل فاعلين جدد من أجل تهيئة السياق و المساهمة في الحفاظ على الثقافة المغربية و قيمها المحلية و الكونية التي تقدر التسامح و العيش المشترك و التي تجعل للعمل الجماعي مكانة اعتبارية في المجتمع و تعتبر غنى النفس و كرامة الفرد ثوابت غير قابلة للتجزيئ.
بوجود رغبة حقيقية في الإسهام في تنمية المجتمع المغربي والمشاركة في نهضته و تقدمه و بتظافر جهود كل الغيورين تبقى امكانية تعديل المسار ممكنة رغم صعوبته في ظل هبوب رياح العولمة من جهة و تعثر مؤسسات التنشئة الاجتماعية من جهة ثانية.
الغازي لكبير
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News