الاستلاب الرقمي، أي هوية لمتفرج لا ينتج؟

في غفلة منا، كالعادة، تحول العالم بسرعة فائقة لقرية صغيرة يسيطر عليها ويحكمها العالم الإفتراضي والتأثيرات المصاحبة. إستيقظنا فجأة، كأهل الكهف، لنجد أنفسنا في عالم متحرك، متجدد يتطور أكثر مما نتنفس.

أصبحنا تحت رحمة العولمة نحمل العالم في كفنا وفي هواتف ذكية لا تفارقنا، كاليد الثالثة، لا نتحمل أن تتعطل أو تغيب علينا للحظة، ولا نستصيغ حياة بدونها. نفضل تعبئة الهواتف على القوت اليومي، ومساحة الراحة تقاس بإنتهاء التعبئة. وأصبحت جودة صبيب الربط تحدد نوع تنقلاتنا وأماكن تواجدنا. أطفالنا أسقطوا في قاموسهم السفر لأماكن خالية من تغطية الأنترنت والكونيكسيون. إستهوانا العالم الرقمي وإنغمسنا فيه حتى بلغنا نقطة ألا عودة.

المتداول اليوم هو التهافت على رفع عدد الإدسانس ونسبة المشاهدة ولايكات، والبحث على أموال سهلة عبر قنوات اليوتوب، وظهرت تجارة رقمية غير مرئية تغري من داخل البيوت.

واستحودت التفاهة على العقول، وغلبت الرداءة في المحتويات، ودب الكسل في النفوس، وظهر قوم إفتراضي يسمون أنفسهم “المؤثرون” يحصدون المتابعين ويتربعون على عروش البوز.

وفي وقت قياسي، حسمت المعركة لصالحهم، فإنتصرت الرأسمالية المتوحشة والتفاهة وأصبحنا أجسادا خاضعين للتجارة في سوق النخاسة الإليكترونية.

فهل التاريخ سيتوقف عند هؤلاء؟ إذا كان العالم يتجه نحو التفاهة والسطحية، فلن نسمح كغيورين على قيمنا بشرعنتها.

هناك معركة عالمية قائمة في ساحة الثقافة والقيم والحضارة. أعلنا خسارتها لأننا ساهمنا في إنتاج أجيال بدون ماض ولا ذاكرة، وبدون وازع أخلاقي يردع التصرفات والسلوكيات السلبية، ينتصر للجوهر ويساند العمق.
أول ماضاع فيه المغاربة هو مجال القيم بعد فشل مؤسسات التنشئة الإجتماعية كالأسرة، والمدارس ودور الشباب في تصويب العقل الناقد، وتحصين الناشئة بالقدرة على التمرد على النمطية وتقويم الذوق العام، وعدم الإستسلام بسداجة وإنبهار فارغ للسطحية والسقوط في مستنقع التفاهة.

أنتجنا جيل طاكوس والبتزا وطوطو، نربي الأبناء على الإستلاب الثقافي، وإستسلمنا لإغراءات العالم الإفتراضي وجاذبية الرقمنة، لأننا مجرد مستهلكون مستضعفون نخدم إقتصاد السوق. كما قال المفكر اللبناني أمين الريحاني، الأمة التي لا تنتج تموت ولو كانت جبالها من فضة وسهولها من ذهب.

هناك ميادين المعرفة والصناعة الثقافية سنظل فيها قابعين في الصفوف الأخيرة مع المتفرجين ولن نصبح يوما لاعبين وسط رقعة ميادين المنافسة. لمجرد أننا قهرنا جيلا بأكمله، وحطمنا قطاع التعليم العمومي، رافعة كل تطور مجتمعي، حيث تعاقدنا مع مكاتب دراسات أجنبية لتحل لنا معضلة التعليم، أهدرنا أموالا طائلة في المخططات الإستعجالية، وليت دار لقمان بقيت على ما عليها، بل تدحرجت للأسوأ. وما يقع للمدرسة العمومية اليوم خير دليل على غياب إرادة سياسية حقيقية للإصلاح.

وسيسجل التاريخ أننا فشلنا في تجويد الإنتاج المعرفي والثقافي، وتحرير العقل المغربي لكسب مناعة فكرية تمكنه من التموقع على مسافة من التفاهة.

تأخرنا معلوماتيا لأننا لا ننتج الجودة. “لا خير، بل وويل لأمة لا تأكل مما لا تزرع، ولا تلبس مما لا تنسج، ولا تشرب مما لاتعصر”، كما قال جبران خليل جبران. مات جبران منذ زمان، ولا زالت الويلات تلاحقنا. لأننا سلمنا مفاتيح المعرفة والمعلوميات لغيرنا منذ زمان، سلمنا مفاتيح حضارة لصناع تفاهة الرقميات، كما سلم أبو عبد الله، آخر ملوك الطوائف، مفاتيح غرناطة للملك فرناندو.

لأننا فاتنا القطار ولم نستطع أن نربي الناشئة على التسلح بأدرع حضارية حامية للضربات المميتة المصوبة صوب تاريخنا المجيد، ولخصوم قيمنا ومدمري حضارتنا.

دخلنا موسوعة غينيس من بابها الواسع بأكبر كسكس، وأكبر طاجين وأضخم براد، وخرجنا من النافذة في ميادين جادة. تديلنا لائحة التنمية البشرية، وإصطففنا في آخر الصفوف في جودة التعليم العمومي، وتأخرنا في خدمات الصحة العمومية.

وإفتخرنا بعرض منتخبنا الكروي في المونديال الأخير، تمتعنا بالفرجة فعلا، رغم علمنا أن كرة القدم أفيون الشعوب. وسننظم الكأس القارية والعالمية بكل إعتزاز أملا أن نجني منهما مكاسب إقتصادية وتنموية. وهل سنستوعب الدروس يوما من الإخفاقات المتتالية كما نعتز ونهتز فرحا بالنجاحات العابرة؟

صدقت القول، والدة الحاكم أبو عبد الله، آخر ملوك الطوائف، او “الصغير” كما لقبه الإسبان، حين سلم باكيا مفاتيح فردوس الأندلس للملك فرناندو: “إبك كالنساء ملكا لك تحافظ عليه كالرجال”.

امحمد القاضي: رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله.