الرأيالمغرب اليوم

الأمن الهوياتي: من سيحمي الشعور بالإنتماء؟

  • بقلم: امحمد القاضي* //

في أواخر القرن الماضي بدأنا نتحدث عن الأمن الغذائي، وهو ضمان الإكتفاء والحصول على أغذية سليمة للجميع؛ والأمن الطاقي، هو تحسين مناعة وتنافسية القطاع مع الإستثمار في الموارد المتجددة. ومؤخرا على الأمن السيبراني، وهو حماية الأنظمة المعلوماتية من الهجمات المدمرة. وماذا عن الأمن الهوياتي؟

الأمن الهوياتي هو الإلتزام بتوفير الحد الكافي من الإحساس بالإنتماء، والسهر على حماية الشعور بفخر الموروث، والحفاظ على الإعتزاز بالهوية الوطنية الجماعية التاريخية، والخصوصية الثقافية واللغوية المتنوعة.

تعرف الهوية المغربية، بتعدد إنتماءاتها وتنوعها، هجمات إعلامية حضارية متعددة، خاصة الغربية والمشرقية منها، الغرض منها تدويب الخصوصية الثقافية المغربية في موجات دخيلة تسقط الناشئة في إستلاب ستمحى معه الذاكرة الوطنية وستدمر مع مرور الوقت الخزان المعرفي والثقافي للحضارة المغربية العريقة لطالما كافح الأجيال السابقة للحفاظ عليها.

إذا كانت تمغربيت تجمعنا، فإننا في جبال الأطلس عموما، ومنطقة أيت عبد الله بالأطلس الصغير على الخصوص، نتمتع بخصوصية نساهم جميعا في إندثارها بالتجاهل وعدم حماية نوعيتها أو العمل على الحفاظ على الموروث فيها.

تعتبر تمازيرت عند غالبة أهل سوس صمام أمان للإشباع من الإحساس بالإنتماء لرقعة جغرافية داخل الوطن.

الذين يرون في جبال الأطلس الصغير مجرد موقع عابر وملجأ للترفيه، فهي أكبر من ذالك. من يريد أن يختزل أرض مسقط الرأس إلى مجرد نأوى أو فندق لقضاء بعض اليالي الصيفية، أو منتجع سياحي جبلي للترفيه، أو ساحة لمهرجانات موسمية أو خشبة لإستعراض عروض فلكلورية للفرجة، فهو يبخس مجهودات وتضحيات أجداد.

المكان يختزن تاريخ مقاومة وملاحم وبطولات محلية ساهمت في إغناء التاريخ الوطني، أطمست ولم ترى النور بعد. وتعتبر ذاكرة المقاومة بالأطلس الصغير الغربي، ومعركة أيت عبد الله بالخصوص، كآخر معقل يدخله الإستعمار الفرنسي سنة 1934، وكفاح المقاوم عبد الله زكور المستميت ضد المحتل نموذجا التاريخ المحلي والوطني المقصي من كتب التاريخ.

المواقع الأثرية العتيقة التي تزخر بها جبال سوس وترقى للعالمية كموروث إنساني، غير معترف بها كإرث وطني. ومنها إكيدار، المخازن الجماعية، التي تعبر عن عبقرية الإنسان الأمازيغي القديم معماريا وتصميما، ناهيك عن أعراف «إزرفان» تسيبر المخازن التي تضاهي قوانين البنوك الحديثة، وإعتبرها العارفين أقدم مؤسسات بنكية في العالم.

سوس العالمة، موقع أقدم المدارس العتيقة حيث يدرس التصوف والطرق والدين المتسامح. ملاحم المدارس العتيقة بسوس وأدوارها في الحفاظ على الحس الوطني والتوازن السياسي والتماسك الإجتماعي والروحي والتعليم الديني الأصيل لم تأخذ حقها عند الجهات الوصية بالشأن الديني. وتظل تسير بواسطة جمعيات مدنية ويمولها محسني سوس. يعتبر العلامة مختار السوسي أحد أعمدتها.

بوادي سوس أنجبت ‘مول الحانوت’ التاجر الصبور بحواضر المغرب، الحافظ على الإقتصاد الأسري والتوازن الإجتماعي والتماسك العائلي داخل الأحياء. نمودج التضحية والعصامية، أسسوا لتجارة القرب وتجانسوا مع ساكنة بأضيق أزقة المدن، قبل أن تسطو على السوق موجة المراكز التجارية مستغلة نهب إقتصاد السوق وإستلاب الرأسمالية المتوحشة لعدم تكافؤ الفرص. وأحيلكم في هذا الصدد على كتاب جون واتربوري:”الهجرة إلى الشمال: سيرة تاجر أمازيغي.” مونوغرافية تحكي كيف أسس أهل سوس لتجارة القرب بتفان وصدق، ليصبح ليصبحوا أصحاب شركات وعلامات عالمية تساهم بقسط وافر في الإقتصاد الوطني.

سهول تارودانت تغذي المغرب ودول أوروبية بمنتجاتها الفلاحية، وتعتبر خزان فلاحي ومصدر ثروة زراعية وطنية بجودة وغنى وتنوع منتجاتها. وتظل تارودانت أكبر إقليم بالمغرب بما يناهز 90 جماعة ترابية أغلبها قروية تعاني ساكنتها التهميش وظروف معيشية صعبة. لقد عرى زلزال شتنبر الماضي عن الأحوال المزرية بالمداشر النائية هناك بالمغرب العميق.

جبال الأطلس وعمق أراضيها تختزن معادن نفيسة ومتنوعة تغني صادرات المغرب وتقوي وارداته من العملة الصعبة لا يعلم سرها سوى الشركات المستغلة لمناجمها. ومع ذلك من يعترف بمساهمة باطن أراضي الأطلس في تطوير وتنمية الإقتصاد الوطني.

المناطق النائية الجنوبية تجلب مآت السياح كل سنة، لتنوع ثقافتها الأمازيغية وطابعها الهوياتي المتميز وعفوية وكرم أهلها وجمالية تضاريسها وجاذبية فلكلورها ورقصات أحواش وقصباتها ومعمارها الفريد. المنطقة تعرف جفاف متوالي وشح في المياه، فمن سيحمي العيش الكريم بالجبال المعزولة؟

أكلات الجدات والأطباق التقليدية السوسية الطبيعية موروث لامادي ينقرض. الوصفات قد يستعصي على الناشئة تحضيرها او تذوق لذة طعمها والتمتع بنفحة الماضي فيها. فأين الجهات الوصية والقوى الحية من الحفاظ على هذا الموروث اللامادي السائر في طريق الزوال؟

لسوس قصص وحكايات وأساطير وإنتاجات شفهية أدبية تعبر عن خصوصية العيش بالمنطقة وإبداع الفكري الأمازيغي. لكن أغلب هذا الثراث الشفهي يندثر لقلة الإهتمام بالتوثيق بالبوادي. للأسف غابت أسطورة “حمو اونامير” في التداول، وأراد البعض أن يلبس تقليد -“بلماون” بوجلود، لباس الدين ليسقطه في تنائية الحلال والحرام!

جبال الأطلس الصغير أعطت رجال سياسة وأصحاب مقاولات كبار ومهاجرين خارج الوطن ساهموا ومازالوا يساهمون في بناء الإقتصاد الوطني، وتطوير تنافسية عدة قطاعات حساسة عالميا، سواء الغذائية منها او الطاقية.

لم تكن للجبال قدسية عبثا وللأعالي مكانة روحية هكذا. بالجبال نزلت الكتب السماوية، وإختلى الرسل والأنبياء للإنفراد بالإتصال الرباني. شموخ الجبال صمود الدهر وحياة الخلوة. فكيف أصبح أهلها مواطنون من الدرجة الثانية؟ من سيحمي الإنتماء الهوياتي وكرامة عيش ساكنة الجبال؟

نحيي صحوة المجتمع المدني بأعالي جبال الأطلس الضامنة للإستمرارية، والفاعلة في لم الشمل وتدارك تعثرات وعود البرامج التنموية التي أسقطت المنطقة من حساباتها الضيقة.

الزائر لقرى جبال الأطلس الصغير، سيقف شاهدا على ما قام به أبناء ونساء ومحسني المنطقة الغيورين، لإخراج الساكنة من العزلة. مشاريع الجمعيات المحلية أقوى من برامج تقليص الفوارق المجالية الرسمية. هناك حماسة شبابية ونهضة جمعوية تشهدها المنطقة وعيا منها بخطر فقدان الهوية المحلية. الكفاءات المحلية تتسابق مع الزمن لرأب الصدع وإصلاح ما تهدم. فهل ستنجح في هذا الإمتحان؟ وإن تعثرت في المحاولات الأولى، نظل نمن النفس بالدورات الإستدراكية.

فهل فعلا سيصلح العمل الجمعوي ما أفسده الدهر؟

سؤال نتركه للزمان للإجابة عنه. إلى ذلك الحين، تصبحون على هوية متماسكة ومجتمع متضامن.

  • *رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله
          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى