الأديب حسن معتوق في قراءة لمسرحية “سوق المداويخ” للدكتور رشيد هيبا
“سوق”، بما تعنيه من: لا ترتيب، صراخ، ضجيج، بيع، شراء… إلخ. و”المداويخ”، بما تعنيه من: تيه، ارتجال، سطحية، تفاهة، بلاهة… إلخ . ” سوق المداويخ ” إذن هو عنوان المؤلف المسرحي الذي صدر مؤخرا للناقد رشيد هيبا عن مطبعة أنفو برانت بفاس.
و يهدف إلى تشريح الحال العربي المتخن بالخيبات والخسارات. وهو نص أقدر أنه مساهمة جميلة في إثراء الكتابة المسرحية في بلادنا.
لكن، من يستطيع بسط التاريخ بهذا الطول وهذه النتوءات في عمل بهذا العمق وهذه الجمالية؟
لابد أن له الدربة والنباهة الكافيتان اللتان دلتاه على اختيار مسرح الحلقة لإنجاز هذه الكوميديا السوداء. وأحسب الأمر كذلك لأنني أزعم أن الكاتب اختار هذا المنحى، أولا، لضمان اختزال المسافة الزمنية المديدة لتاريخ الأمة العربية بواسطة حكّائي الحلقة دونما احداث أي أثر على البنية الأرسطية “وحدة الحدث ووحدة المكان” ثم ثانيا لتحقيق التكثيف الدلالي لعناصر المسرحية في الحيز المتاح. والتكثيف الرمزي الذي يسمح للمتلقي بالفعل الإيجابي في النص من خلال الفراغات التي يتيحها هذا الترميز.
باختصار، الحكايات المتوالدة، والحوارات المتصادمة على لسان شخصيات مستعارة من التاريخ العربي: المعري، الخنساء، يقظان، الضبعي، ابن الحجاج … تعكس تراجيديا التجارب التنويرية المجهضة على مر الحقب، حيث ” الموتى يحاكمون الأحياء”، فتقطع الرؤوس والألسن وتحرق الجثث، وتمسخ الديمقراطية مسخا، ويؤجل العمل بالعقل الى حين…
وذلك بأسلوب يحتفي باللغة العربية الفصيحة من جهة. ويلامس الاستعمال اليومي للمجتمع من جهة اخرى، وتبلغ المأساة ذروتها عندما يطغى الجهل والخرافة، ويتجاوزان حدودهما كخصم للعقل والشعر. وصنعة الكتابة ليصبحا قاضيا يحاكم محاولات الانعتاق من التخلف والاستبداد في صراع مرير ومديد بين طرفين غير متكافئي الفرص…
وذلك في ” مشهد المحاكمة” حيث مثلا: ” الراوي يصرخ: يا سادة ان الحياة السرمدية لا تكون إلا بالانتصار لروح الفكرة والكلمات الراقصة” (الراقصة = المتحررة)… ” المعري: انما الشعر للغواية والجنون وأهل العبث”… “أبو عامر: والشعراء يتبعهم الغاوون… “المعري: … وأصبح الشاعر وصاحب صنعة الكتابة مكذبا متسولا…” (في هذه المقاطع مصادرة صريحة للكشف الوجودي الذي يتحقق بالشعر وللشعراء كما يرى مارتن هايدجر)… ” أبو عامر: صك الاتهام الأول أيها المتهمون، أنكم سمحتم بدخول رجل غريب إلى مدينتنا ” (محاكمة العقل والانفتاح). “… ويعود السوق كما كان، كل منشغل بالبيع والشراء، أما القاضي والفقيه، فيتجول بغطرسة في السوق والحراس يتبعونه”.
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News