الرأيالمجتمع

احتضار المدرسة المغربية – الجزء الثاني

  • بقلم: المكي بوسراو //

مبدئيا فالمدرسة تغير شخصية المتعلم وتوفر له معلومات جديدة تساهم في بلورة طموحاته وتوسيع آفاقه المعرفية وتخلق منه مواطنا واعيا بحقوقه وواجباته . لكن حين نـتأمل واقع المدرسة المغربية نلاحظ أن البون شاسع بين ما يجب أن يكون وما هو كائن.

كيف ذلك؟ إن المتأمل لنظامنا التعليمي سييتنتج أن تأثير المدرسة محدود أو بالأحرى هو مسيج بسياق سوسيو-ثقافي( انظر المقال السابق) يحد من مهامها الإيجابية ويحولها على العكس إلى آلة لصناعة أفراد محدودي التفكير، يفتقدون إلى أدوات التحليل والنقد. فالمدرسة لا تلقنهم كيف يبحثون وكيف يحللون وكيف يستنتجون ولا كيف يجدون حلا أو حلولا للمشكلات التي تعترضهم في الحياة، بل تكتفي بتزويدهم بمعلومات كثيرة ومـتآكلة، تنتمي إلى الماضي أكثر مما تروم الحاضر والمستقبل، معلومات لا تساعد المتعلم على الانخراط في مشاريع مستقبلية وواعدة.

كما اتضح لي بعد تجربة طويلة في التدريس أن لغة التقويم والامتحان هي الطاغية في نظامنا التعليمي بدل لغة البناء والاستكشاف والتمحيص والنقد.

فالمطلوب من التلميذ عندنا هو الإجابة على الأسئلة المطروحة وليس تفسير أو تبرير ذلك، والإدلاء بالمعلومات أهم من البحث في أسبابها ونتائجها. لاحظوا معي كيف تحول درس الرياضيات إلى أرقام ومعادلات ونتائج إما صحيحة أو خاطئة بدل أن يكون درسا في الطريقة والمنهج يعلم التلاميذ أساليب الاستدلال والبرهنة ويكسبهم آليات المنطق الرياضي المعاصر.

أما درس التاريخ فقد تم اختزاله في أحداث وتواريخ وأسماء، بدل أن يكون درسا في البحث عن الأسباب وتحليل الوضعيات والاستفادة من الأخطاء ومواجهة المستقبل عبر تقويم الماضي.

أما المثال الأخير فهو درس الفلسفة الذي تحول في أقسامنا إلى حصة لاستعراض أسماء الفلاسفة وذكر أجزاء متناثرة من أطروحاتهم وتحفيظ التلاميذ تعاريف جاهزة لمفاهيم معقدة، بدل أن يكون ذلك الدرس مناسبة لتعلم آليات الحجاج و الاستدلال المنطقي وفرصة للكشف عن الخلفيات الفكرية لكل أطروحة فلسفية وللمساءلة النقدية البناءة.

هكذا خلصت، بعد طول تأمل، إلى أن الوظيفة النبيلة للمدرسة توارت خلف أهداف وأدوار أخرى صارت هي الموجهة للعملية التعليمية برمتها.

أدركت أن المدرسة تصنع، في مجملها، أفرادا محدودي الفهم والتفكير وأنها لا تعدو أن تكون قناة لتعبئة أدمغتهم عبر تمرير جملة من اليقينيات المطلقة والجاهزة، وعدد من التأويلات الأيديولوجية المغلوطة، مرفقة بأساليب نمطية في التفكير والسلوك بل وحتى الذوق الجمالي. فماذا تصنع المدرسة؟ وما هي الأدوار الموكولة إليها؟

لا ننسى، بادئ ذي بدء، أن المدرسة هي مجرد أداة لتنفيذ سياسة تعليمية هي التي ترسم التصور العام الذي يحدد مهام وأدوار المدرسة. وإذا فكرنا مليا في ما تقدمه هذه الأخيرة اليوم لأطفالنا وشبابنا فإننا سنقترب من رسم صورة لملامح الانسان الذي تريده الدولة مستقبلا.

الإنسان الذي تريده الدولة هو باختصار فرد حامل لجملة من المعلومات التي تؤهله لوظيفة معينة ولأداء دور مهني محدد. إنه عبارة عن رقم في معادلة، وهو الرقم الذي تحدد ملامحه المدرسة من خلال البرامج والمصوغات والغايات التي يكون بمقدورها تأهيل الفرد للاندماج بسهولة في السياق المهني والاجتماعي.

ولذلك يركز نظامنا التعليمي على المعلومات والقدرات والمهارات المطلوبة فقط لأداء تلك المهام لا أقل ولا أكثر. فالمدرسة عندنا لا تعير اهتماما للإبداع ولا للقدرة على التحليل والتركيب ولا للعقلية النقدية ولا حتى للتربية على القيم.

فهذه الأشياء ليست مطلوبة ولا ضرورية في سوق الشغل، كما لم تعد ذات أهمية في منظومة القيم السائدة في المجتمع. ما دام الهدف الأساسي للنظام الدراسي هو صناعة أفراد نمطيين، يعيدون ويكررون المعلومات التي لقنت لهم. أفراد لا يفكرون ولا يبدعون ولا يطرحون الأسئلة ولا يتنقدون.

هذه هي ملامح المتعلم الذي تريده الدولة. إنه باختصار ما كنت أسميه داخل أقسامي “التلميذ الببغاء” الذي يتم تعبئته بواسطة “التعليم البنكي”. يتبع

* المكي بوسراو:  أستاذ الفلسفة بالثانوي سابقا

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى