إعادة النظر في مقاييس النجاح المجتمعية: ما معنى أن تكون مواطنا إنسانا؟
- بقلم امحمد القاضي * //
أحد مساعي الحياة، والطموحات المشروعة هي سعي الفرد لتحقيق الذات، والترقي بالمستوى الإجتماعي لبلوغ غد أفضل. ونظرا للتغيرات التي طرأت على المجتمع المغربي وتحول أنماط العيش، أضحى جل المغاربة في سباق مع الزمن لتحقيق عدة إنجازات ذاتية، ولكسب أكبر عدد من المكتسبات المادية. وأصبحت النتيجة نكوص على مستوى الأخلاق، والقيم والمعاملات الإجتماعية.
تعتبر المدرسة العمومية مشتل الكفاءات وموطن تكوين الطاقات والتربية على الأخلاق والمواطنة، وممر إجباري لإكتساب القيم المجتمعية.
من الملاحظ أن الهالة الأسرية والضجة الإعلامية التي تواكب بها إمتحانات البكالوريا، ومساهمة وسائل التواصل الإجتماعي وإعلام الصرف الصحي في إعطاء صوة لتلاميذ كسالى يتباهون بالغش، ويعتبرونه حق سلب منهم، صورة لإنحطاط الأخلاق وتدني لمعايير النجاح المجتمعي، وغلبة للمنطق الغير السليم.
من المعلوم أن الإمتحانات نتيجة جهد تربوي سنوي وتكوين مستمر مشترك بين التلميذ والأستاذ والأسرة، وفرز للذكاء ومحطة عبور لمراكز مستقبلية وإختبار تشجيعي لقياس المعلومات المكتسبة، وليست محطة للتعجيز ووسيلة لتوقيف مسيرة المتعلم. السر في حسن إستثمار وتفاعل كل هذه المكونات. ودور الأستاذ هو تسهيل عملية التحصيل، ونقل المعرفة، وتصحيح المسار وتقويم النواقص. ويكمن دور المتعلم في التفاعل مع المعارف، وإبراز مؤشرات إنسياب الفهم والتفوق، وتطبيق المكتسبات داخل التمارين الصفية مع الإنظباط في جو يسوده الإحترام المتبادل، وتبرهنه الممارسة الأخلاقية خاج أسوار المؤسسة. حين تختل المنظومة، تفكك العملية التربوية فننتج نمادج بشرية بظواهر مشينة.
للأسف ينظر للإمتحان في المتخيل الشعبي كأنه كحاجز تفتيش، وفرصة مراوغة وإظهار دهاء تمرير للغش، ونقطة مراقبة، وساعة تشنج بين المراقب والمترشح، ومناسبة لتعطيل مسيرة التلميذ التحصيلية والمعرفية، بل ووسيلة لعرقلة النجاح أو لقطع الأرزاق. لأن التفوق الدراسي تقزم في الحصول على الشواهد وليس بالموازات مع كسب المعارف والمهارات الحياتية والتكوين الذاتي لمواطن الغد.
المدرسة العمومية ومؤسسات التنشئة الإجتماعية على العموم تقزم دورها وأصبحت تنتج خطاب الكراهية، تفرخ الغشاشين، والصعاليك، تصدر الكسالى وقطاع طرق وتخرج مراهقين مدمنين، منعدمي الأخلاق، أكثر مما تنتج التفوق وتصنع التميز وتؤطر مواطن صالح نافع لمجتمعه وضامن لإستمرارية النبوغ والإستثناء المغربي على كل الأصعدة.
النجاح داخل المجتمع المغربي في الوقت الحاضر يقاس بالحصول على الشواهد العليا الصادرة من معاهد خاصة، وخاصة خارج الوطن (ككندا مثلا كما تباهى بها أحد علية القوم أمام الكاميرات)، للتباهي بالدرجة الإجتماعية للعائلة. أحد المقاييس الأخرى هي نوع السيارة التي يمتلكها الفرد، خاصة الألمانية أو السويسرية، أما الماركة المركبة وطنيا، فهي شهادة ضعف وإشارة للقرض والأداء بالتقسيط. مع العلم أن أكبر ضربة وجهها الزعيم الروحي ماهتما غاندي لإقتصاد المستعمر وأفضل إرث تركه للهند هو الإفتخار بالمنتوج الوطني على بساطته. لذا بقي مواطنو الهند يرتدون ثوب الزي الوطني، ويفضلون إستهلاك البضاعة المحلية. ومن بين المعايير الأكثر رواجا وإستهلاكا هو إمتلاك شقق وفيلات في عدة منتجعات صيفية داخل وخارج الوطن. ناهيك عن التباهي بلباس آخر صيحات الموضة العالمية.
هذا التهافت حول الماديات لا يقتصر على الطبقة الميسورة، بل تنافسهم فيه الطبقة المتوسطة الصاعدة، وتربي الأبناء على البحث على أقصر طريق للإغتناء، ولو على حساب القيم والكرامة الإنسانية.
لهذا أصبح الغش نمط حياة، والفساد عملة كل مسؤول، وأصبح المغرب يتصدر الدول في الغش وسريان الفساد والنفاق الإجتماعي.
النجاح المجتمعي عند غالبية المغاربة هو الإنعتاق الطبقي بأي وسيلة، الكسب والربح المادي ولو بالطرق الغير مشروعة، والإنتماء السريع لمربع الكبار بإمتطاء أقصر الطرق، بمعنى آخر، أنا وبعدي الطوفان.
إدرس بأغلى المدارس وإنتسب لأعرق المعاهد، وتخرج من كل جامعات الدنيا، وأنشر شواهدها على جدران مكتبك، وإمتلك مال قارون وجاه فرعون، لكن إكتسب قيم إنسانية، أولا، ترفعك درجات أمام خالقك، وأخلاقا، ثانيا، تكسبك إحتراما في أعين مخالطيك. بدونها لن تساوي مقدار باعوضة ولا يشرفنا إنتماؤك لنادي البشرية.
كن طيارا تسير الطائرات الضخمة في الهواء، أو طبيبا جراحا للدماغ تداوي أعقد علبة نظام بشرية، أو ثريا تتربع على أعلى مراتب تصنيف مجلة فوربس، كن من شئت في هذا الكون، قيمتك الإنسانية، وأثرك في نفوس الآخرين في حياتك ومماتك، هو الحب والعطف الذي تنشره في الحياة، وسلوكك الذي يقاس بعمق تربيتك الحسنة، وعلمك المقتدر، وبكلامك الطيب، وإهتمامك بجبر الخواطر، بتطوعك وتضحيتك بوقتك، بعطائك من مالك، وعلمك وتجربتك ينتفع بها غيرك المحتاج، ولطف معاملتك وقدرتك في تقديم العون عند الحاجة. نجاح المجتمع في قوة الفرد المعنوية ومدى إستطاعته كبح جماح جبروته، أنانيته، غطرسته، والتخفيف من سعيه المستميت وراء الماديات. هذه هي آثار المدرسة على المجتمع، والمتعلم على محيطه.
طوبا لمن ترك أثرا في محيطه وكان مروره في الحياة نعمة على الإنسانية وذكراه حنين تدمع لها العين، وترفع له الدعوات في المجالس، ما دون ذلك إلى مزبلة التاريخ.
تقدم الأمم والمجتمعات تقاس بمستوى الخدمات العمومية، والثقة في المؤسسات، وكفاءة المسؤولين ونزاهة المنتخبين، وإحترام الغير، ومستوى تعلم وتكوين الأشخاص، وحب الوطن بأداء الواجبات وصون حقوق الغير، والمساهمة المجتمعية. بإختصار، بمدى تطابق الخطاب والسلوك، والتدين والممارسة وإنسانية وتسامح المواطن. فأين نحن من هذا؟
خلاصة القول، الإشكالية أننا كلنا ننبذ الكراهية، سوء الأخلاق ونكره السلوكيات المنبودة وننشد التغيير، لكن لا أحد يقدم القدوة. كما يقول غاندي “كن التغيير الذي تريد أن تراه في العالم.”
إلى ذلك الحين تصبحون على مواطن يتبسم في وجه أخيه، واع بمسؤولياته، ومغرب أجمل بأناس أرقى.
- * رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News