
إعادة الاعتبار للمجال في ضوء التوجيهات الملكية..نحو جهوية فاعلة وتنمية مجالية مندمجة
- بقلم: رشيد بوخنفر * //
يشكل الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لتربع جلالة الملك محمد السادس نصره الله على عرش أسلافه المنعمين محطة بارزة في مسار تجديد النموذج التنموي الوطني، حيث دعا جلالته إلى إعادة رسم معالم تنمية مجالية مستدامة ومندمجة تتجاوز الحدود الإدارية التقليدية، وتُعيد الاعتبار للمجال باعتباره وحدة أساسية للتخطيط والتنمية، حيث استند جلالته في هذا التوجيه الاستراتيجي إلى نتائج الإحصاء العام للسكان لسنة 2024، والتي كشفت عن تحولات ديمغرافية واجتماعية ومجالية عميقة، تستوجب مراجعة جوهرية لأساليب إعداد وتنفيذ السياسات العمومية.
إن اللحظة الراهنة، كما عبّر عنها الخطاب الملكي، تستدعي إحداث نقلة نوعية في التأهيل الشامل للمجالات الترابية، من خلال القطع مع المقاربات القطاعية الضيقة، والانتقال نحو رؤية مندمجة للتنمية المجالية، قوامها تثمين الخصوصيات المحلية، وتكريس الجهوية المتقدمة، وتعزيز التكامل والتضامن بين مختلف المجالات والفضاءات الجغرافية.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية التصميم الجهوي لإعداد التراب كأداة مركزية لتنزيل هذا التحول المفهومي والمؤسساتي في مقاربة التنمية. فقد نص القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات على أن هذا التصميم يُعد وثيقة استراتيجية مرجعية للتخطيط المجالي على مستوى الجهة، تدخل في صلب الاختصاصات الذاتية لمجالس الجهات، وتهدف إلى بلورة منظور شمولي للتهيئة المجالية على مدى ربع قرن، وفق توجهات السياسة الوطنية لإعداد التراب.
ويحدد المرسوم رقم 2.17.583 الصادر بتاريخ 28 شتنبر 2017 مسطرة إعداد هذه الوثيقة وتحيينها وتقييمها، مع التأكيد على أهمية التشاور والتنسيق بين مختلف الفاعلين المحليين والوطنيين، من جماعات ترابية، وإدارات عمومية، ومؤسسات، ومجتمع مدني، وقطاع خاص، بحيث يعتمد هذا الورش الحيوي على منهجية ترابية تصاعدية تشاركية، تُمكِّن من تثمين المبادرات المحلية، وتحقيق الانسجام بين التخطيط الاستراتيجي الوطني والرهانات المجالية الجهوية.
وتُجسد جهة سوس ماسة نموذجاً متقدماً في هذا المجال، من خلال التصميم الجهوي لإعداد التراب الذي اعتمدته، والذي يقسم تراب الجهة إلى خمسة مجالات مشاريع وظيفية، تُترجم عمق الخصوصيات المجالية وتُعزز التكامل في ما بينها، أولها مجال المشاريع بالمنطقة الساحلية والذي يُركز على تثمين المؤهلات البحرية والسياحية، في حين يُشكل أكادير الكبير قطباً حضرياً واقتصادياً محورياً، أما السهول والتلال، فتمثل خزانا فلاحيا يحتاج إلى دعم بنياته التحتية واستدامة موارده، في حين أن المناطق الجبلية تُطرح فيها تحديات العزلة والتفاوتات الاجتماعية، ما يتطلب تدخلات مُنصفة وشاملة، فيما تبقى منطقة ما قبل الصحراء (طاطا…) مجالاً واعداً للاستثمار في الطاقات المتجددة والسياحة البديلة وتدبير الندرة المائية.
إن تجاوز الفوارق المجالية والاجتماعية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال توجيه السياسات العمومية نحو مقاربة جديدة تُعيد الاعتبار للمجال كفضاء متكامل للعيش والإنتاج والاندماج، وهنا تبرز الحاجة إلى تفعيل التصاميم الجهوية لإعداد التراب، لا باعتبارها فقط أدوات تقنية، بل باعتبارها أُفقاً استراتيجياً لتحقيق الإنصاف المجالي والعدالة الاجتماعية، عبر استثمار الذكاء الترابي والطاقات المحلية.
ولعل أفق الجهوية المتقدمة، كما تصوره جلالة الملك نصره الله، لا يكتمل إلا بجعل الجهات قادرة على قيادة مشاريعها التنموية، وفق منطق يربط التخطيط بالتراب، والسياسة بالحاجة المحلية، والمجال بإمكاناته وخصوصياته، ولذا فبهذه الرؤية الملكية السامية، يُمكن تحقيق تنمية عادلة ومستدامة تُعيد الثقة في المؤسسات وتُعزز اللحمة الوطنية وتفتح آفاقاً جديدة أمام الأجيال الصاعدة بكافة جهات المملكة.
*رشيد بوخنفر: نائب رئيس مجلس جهة سوس ماسة مكلف بالتنمية الإقتصادية

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News