
أفول البادية، أفول للحياة..!
كانت البيوت في البادية المغربية تؤوي عائلات كبيرة ممتدة تضم الجد والجدة والأب والأم والأعمام والإخوة، بيت يتسع كلما تزوج أحد الأبناء وانضافت إلى العائلة أسرة أخرى، ويد عاملة أخرى تساهم في أشغال البيت الداخلية. إذ النسوة تنهضن بأعمال البيت القروية الداخلية وما يرتبط بها خارج البيت، بينما الرجال يتولون أعمال الخارج الذكورية من حرث وحصاد ودراس وتذرية وجمع لمختلف المحاصيل كالزيتون واللوز والأرگان والخروب، وهي المهام التي يتولى توزيعها الجد، زعيم البيت وقائده، والجدة المكلفة بتدبير شؤون النسوة وقيادتهن…
كان سكان كل دوار، وهو تقسيم من تقسيمات القبيلة، يتوافقون على تخصيص ممرات للبيوت والدواوير تقتطع من الأملاك الخاصة بالتوافق، وتسمى تيسواك/ مفردها تاسوكت (تاسوكا عند بعض القبائل الناطقة بالدارجة المغربية مثل الشياضمة)، ومعبر يقتطع من الأملاك المشاعة نحو الغابات والمراعي يسمى أزروگ جمعه ءيزراگ، وكانت الغلال، أرگان مثلا في مناطق أرگان، لا تجنى إلا بعد الإعلان عن فتح ءاگدال، الذي يغلق ويفتح بإعلان للعموم يعلنه براح القبيلة في أحد أسواقها، فيمنع الرعي والجني في كل الأملاك الجماعية، الغابات، التي يسود فيها أرگان. وكانت أإلب الأشغال تنجز بتيويزي، التعاون، أو أدوال أي تبادل الخدمة، فينشغل الناس بأشغالهم وضمان قوت يومهم، ولا ينظمون الأعراس والاحتفالات والمواسم ومختلف الملتقيات إلا صيفا، بعد الانتهاء من آخر عملية لجمع المحصول أزوزر، أي التذرية.
إن الحياة في البادية المغربية تحتاج وقفات بحث وتأمل عميقين من جميع الجوانب، فهي التي ضمنت استمرار النمط الأمازيغي المغربي إلى اليوم بكل تفاصيله الدقيقة، والتي تفقد عاما بعد عام بسبب الهجرة الاضطرارية للأسر نحو المدن، التي ما أن تستقر بها حتى تنسلخ من هويتها وخصوصياتها الثقافية والحضارية وتعانق المجهول.
كان البيت القروي في المناطق الأمازيغية يتكون من مرافق مختلفة، خارجية ملحقة به وداخلية، فخارج البيت وكامتداد له تصادفك، وأنت تقترب منه، خزانات تقليدية للحبوب أو مطامر تسمى “تيسرفين” مفردها تاسرافت، ووسطه، أو بالقرب منه خزان أو خزانات للماء “تانوضْفي/ تينوضْفايْ” تملأ بمياه الأمطار ولا يلجأ إليها إلا صيفا، وتلحق بالبيت قطعة أرض يحاط بها سور تسمى “تادارت” وتخصص لخلايا النحل : إيگْليفْنْ”، وقطعة أخرى تخصص للدمنة ” أمْدُّوزْ”. وما أن تلج البناية، أو المنزل الكبير باب خارجي حتى تجد أمامك بابا آخر يوصلك لبيت الضيوف “تادّواريْتْ”، تضم غرفة بهية أو غرفا ” تامصْريتْ/ تيمْصْرايْ”، وهو عبارة عن بيت متكامل المرافق والتجهيزات يخصص لاستقبال الوافدين على الدار، عادة ما يكون مستقلا في كل شيء ولا يرتبط بالبيت الرئيسي إلا من خلال ذلك الباب الذي يؤدي إليه ويخصص لولوج الذكور من أهل البيت إلى تادواريت أو استقدام الحاجيات من الطعام الذي يطهى في مطبخ البيت الرئيسي “أنوال”.
ويتم الولوج إلى البيت القروي عادة عبر عدة أبواب خارجية، منها الواجهة أو البوابة الرئيسية للمنزل، والباب الذي يدخل منه الضيوف إلى بيت الضيافة؛ وبوابة تخصص لزريبة الأغنام والماعز “تاگْلاَّيْتْ” لا تفتح إلا لإخراج القطيع وإدخاله، إذ القطيع لا يمر من فناء الدار الرئيسية، وترتبط تاگْلاَّيتْ أيضا بالبيت الرئيسي ببوابة لا يخرج منها عادة إلا المكلف بالرعي أو من سيقوم بجمع حبات الأرگان “أقايين” التي ينقلها الماعز من الغابة في أحشائه ” أقَّايْنْ”، أو من سيقوم بتنظيف الزريبة؛ وبوابة جانبية أخرى يدخل منها أفراد العائلة جميعا.
ويتميز المنزل القروي الأمازيغي عادة بكبره وفخامته وبوابته الرئيسية الخشبية الثمينة، إذ كانت تصنع الأبواب الخارجية في مناطق إيحاحان من خشب العرعار النفيس، قبل هجوم الأبواب الحديدية، واختفاء تحف العرعار التي اشتراها أصحاب البازارات من ورثة المنازل الكبيرة بأبخس الأثمان، يؤدي بك باب كبير آخر إلى فناء البيت، ولكنك تمر من حظيرة الأبقار والدواب أگرورْ، وعلى جانبيك الأيمن والأيسر رؤوس أنعام التي لا غنى عنها لأي عائلة وإسداسْ، وبوابة أو عدة بوابات يولج منها لغرف تخزين التبن والأعلاف “لْهْري”. تلج إلى فناء الدار ءاساراگ الذي يتوسطه حوض مخصص لنباتات الزينة المحلية كتيبينْصْرْتْ ولحباقْ والغنباز…، تحيط به غرف النوم التي تصطف واحدة بجانب الأخرى والتي تخصص كل منها لأحد الأبناء وزوجته، حيث يتم تزويج الذكور تباعا حسب أعمارهم، وفي ركن من أركان البيت المطبخ القروي الكبير الذي يرشدك إليه الدخان الذي يغطي جدرانه، وتخصص غرفة كبيرة من غرف البيت، خصوصا العلوية “أگْنارْ/ إيگْنارْنْ” لتخزين ما تنتجه العائلة من المواد الفلاحية من حبوب وقطاني وزيوت وعسل.
كان كل بيت أمازيغي إلى عهد قريب يحقق اكتفاء ذاتيا كبير، ويعيش استقلالية تامة عن الخارج في تأمين أغلب حاجياته التي تضمن العيش، ففي كل بيت خزان لكل ما تنتجه العائلة، وقطعان ماعز وغنم وبقر ودجاج وارانب، وجرار زيت زيتون، وغرف ممتلئة بالحبوب والقطاني وحبات الأرگان، بل إن الأمازيغ كانوا يحدثون بجانب منازلهم بساتين يزرعون فيها بعض الخضروات كالبصل والبطاطس والنعناع، تفي بتأمين بعض الحاجيات التي تجعل رب العائلة وقائدها لا يجلب من السوق إلا بعض المقتنيات.
إن استقلالية العائلات الاقتصادية لا تعني العزلة والفردانية، بل القدرة على تأمين كل حاجيات أفرادها دون الحاجة للسؤال ومد اليد لأي كان، فروح الجماعة والتعاون والتآزر حاضرة بقوة إلى عهد قريب في العمل وفي تدبير مختلف الأمور، كتيويزي وأدْوالْ وأگدال، والطريقة التي تقام بها مختلف المناسبات كالزواج، إذ أن كل السكان يسهمون في تموين كل شيء وضمان النجاح.
وتوارث الناس جيلا عن جيل خصلة الاعتماد الكلي على النفس لتأمين كل الحاجيات، فإلى وقت قريب ينذر أن تجد بيتا قرويا خاليا من مؤونة عام كامل على الأقل، للبشر والحيوان، تضم الحاجيات من الماء في الخزان تانوضفي”، والحاجيات من التبن والأعلاف في ” لْهْري”، والحاجيات من الحبوب والقطاني والزيوت في غرفة الادخار، وكانت العائلات تبذل كامل مجهودها لتأمين معيش أفراد الأسر التي تتكون منها، فتوفر للبيت دابة أو دواب يعتمد عليها في مختلف الأشغال، بقرة أو أبقارا توفر الحاجات من حليب ولبن وزبدة وتباع ذكورها بعد تسمينها لتمويل حاجيات العائلة وتوسيع ممتلكاتها، وقطيعا من الماعز والأغنام لتأمين ما يتم اقتناؤه من السوق، ولا يخلو البيت القروي من كلاب وقطط، تتولى الأولى الحراسة مقابل تأمين مأكلها ومشربها من قبل أهل الدار، وتؤمن الثانية مطاردة الفئران والحشرات السامة.
وتعتبر سواعد القرويين الضامن لبقائهم، فهم لا يتوقفون عن العمل طيلة السنة، فيشرعون مباشرة بعد انتهاء غشت الفلاحي في نقل السماد الطبيعي ” أمازيرْ” من الدمن لتوزيعه على الحقول، يلي عملية أمازير حرث الشعير، ثم القمح، ثم القطاني، ثم الذرة، وما أن يهل أبريل حتى يشرع في استقدام الحصادين من الأسواق المجاورة، تلي الحصاد عملية الدراس فالتذرية فجمع المحصول وتخزينه، فالتفرغ للأعراس والاحتفالات المختلفة التي يؤمن حاجاتها أبناء القبيلة ويؤثتونها بإبداعاتهم المختلفة.
إن المرء يتألم وهو يعرج على قريته التي لم تعد كما كانت، إذ تحولت حقولها إلى مساحات جرداء واتشحت أشجارها بسواد الجفاف، ويزور بيت أهله الذي لم يعد يؤمن معيشة يوم واحد فما بالك سنو أو سنوات كانت تؤمن، ولا يعمل من مرافقه إلا غرف النوم ومطبخ كمطابخ الأسواق الأسبوعية، تحمل إليه لوازم الطبخ وتنتهي مهمته بتناول الوجبة الغذائية. وهو وضع لا يعود فقط إلى الطبيعة وتوالي سنوات الجفاف، بل لتغير العقليات، وهو موضوع آخر يستحق البحث.

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News