العالم اليوم

أتاي الأحد:  مئة يوم بعد ترامب .. هل وصل الزلزال إلى الكنيسة؟

  • عبد الرفيع حمضي //

عادت “المئة يوم الأولى” إلى واجهة النقاش السياسي في الولايات المتحدة والعالم مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، في ولاية غير مسبوقة من حيث رمزية التوقيت وحدّة الانقسام.

فمنذ عهد فرانكلين روزفلت، الذي أطلق هذا التقليد السياسي بتقييم حصيلة الرؤساء خلال هذه الفترة، لم تحظَ أي “مئة يوم” بمثل ما حظيت به تلك التي وقع تحت مجهرها ترامب، بما تحمله من وعود ووعيد، وقدر استثنائي من الإثارة والتوجّس في آن واحد.

لكن هذه المرة، لم تكن المئة يوم مجرد اختبار سياسي، بل زلزالاً أعاد تشكيل المشهد الأمريكي والدولي برمّته. فقد أصبح من الواضح أن ترامب لا يمثل مجرد ظاهرة صوتية، كما كان يعتقد البعض وانا منهم .

بل هو مشروع متكامل له منطقه الخاص، يستمد شرعيته من رفض السائد، ومن احتقار النخب، ومن الانقلاب على ما كان يُعدّ بديهيًا في السياسة.

وحين عبّرت عن هذا الرأي في الأيام الأولى لتنصيب ترامب، مع أحد كبار الساسة الفرنسيين، الوزير الأول الأسبق جان-لوي رافاران، على هامش مؤتمر دولي بنواكشوط فلم يتردد في تفاعله بالقول: بأن أمريكا والعالم قد دخلا عهدًا جديدًا، وأن وتيرة مفاجآت ترامب ستستمر طوال ولايته، بالفعل قبل القول.

وهكذا كان ،فمنذ الأيام الأولى اصطدم ترامب مجددًا بما يسميه “الدولة العميقة” ذلك الجهاز الإداري والمؤسساتي غير المُنتخب، الذي يتحكم فعليًا في مفاصل القرار من خلال تراكم الخبرة والتراتبية والولاء لثقافة تقليدية موروثة عن أوروبا.فبالنسبة لترامب ،تمثل هذه الدولة تجليًا لعقلية محافظة تُعيق المبادرة وتُقزّم الحسم، وهي في جوهرها نقيض “الروح الأمريكية” التي يتصورها قائمة على الفعل لا الانتظار، وعلى النتائج لا الإجراءات، وعلى الحسم لا التردد.

قال ترامب ذات مرة: “أنا لم آتِ لأُدير الدولة، بل لأُعيد بناءها” — ولم يكن هذا الكلام مجرد عبارة إنشائية، بل اصبح إعلان حرب صريحة على تقاليد الحكم الأمريكي.

وفي المئة يوم الأولى كذلك ، أعاد ترامب التأكيد على مشروعه الهادف إلى تفكيك إرث العولمة، واستعادة “أمريكا الحقيقية” من قبضة النخب، والتحالفات، والتعهدات التي تُقيد “السيادة”.

ولعل اخطر ما في هذا المشروع أنه يُعيد تعريف الوطنية الأمريكية بشكل يُقصي الآخر، ويحوّل شعار “أمريكا أولاً” إلى منظومة فكرية تُعلي من السيادة والانغلاق وتُضخم من مفهوم الحدود، حتى في زمن تنهار فيه الحدود بفعل التكنولوجيا والهجرة والتداخل الثقافي.

ان إعادة النظر في التزامات واشنطن في حلف الناتو، والانسحاب من اتفاقيات المناخ، وتقييد الهجرة، وشنّ حرب مفتوحة على الإعلام، وتقويض استقلال القضاء… ليست كلها تفاصيل عابرة، بل هي لبّ مشروع فلسفي قائم على إحلال دولة السوق بدل دولة الحقوق.

والمفارقة أن هذا الخطاب يصدر عن رجل أعمال يُفترض فيه أن يكون عاشقًا للمرونة والانفتاح. لكن يبدو أنه مصر على ان يعيد تشكيل الليبرالية على قاعدة جديدة قوامها السوق في خدمة السيادة، لا في خدمة التبادل والانفتاح.

ترامب منذ ولايته الأولى لم يكن رئيسًا فقط، بل رمزًا عالميًا لموجة شعبوية جديدة امتدّت من بولسونارو في البرازيل إلى أوربان في المجر، ومنميلاني في إيطاليا إلى مودي في الهند، حيث وجدت في ترامب الشرعية، والمرجعية، والدليل على أن الخطاب المتشدد، قادر على كسب الانتخابات….

بل لا أجازف إذا قلت ان رموزًا ومراجع دينية، كالبابا الجديد ليو الرابع عشر، صاحب التوجه المحافظ والانغلاق على قضايا الهجرة والهوية، يُمكن إدراجه ضمن موجة عالمية تشهد تقاطعات واضحة مع “الترامبية” كفلسفة أكثر منها مجرد حالة سياسية.

فرمزية اللحظة تزداد عمقًا في تقاطع المشهد السياسي مع الديني حيث ينتخب بابا جديد في الفاتيكان بروح محافظة تشبه تلك التي يحملها ساكن البيت الأبيض.

فقد يبدو الربط مُبالغًا فيه للوهلة الأولى، لكن المتأمل جيدًا في البنيات الرمزية للسلطة، وفي ما يجمع بين “ترامب السياسي” و”ليو الرابع عشر الروحي”، يرى تجليات مشتركة لعصر جديد حيث الفرد فيه يعلو على المؤسسة، والصوت العالي يُقصي الحوار، والهوية تُستعمل سلاحًا أكثر من كونها قيمة.

وفي الختم فان خطورة ترامب لا تكمن في شخصه، بل في النموذج الذي يُعيد تصديره بعناوين بارزة : سياسة بلا أخلاق، ومؤسسات بلا ثقة، وشعب بلا بوصلة مرشدة وضابطة.

مئة يوم فقط كانت كافية لتُظهر أن العالم يقف أمام مفترق طرق حاسم فإما ستهيمن الشعبوية العالمية بقيادة ترامب ورموزها…أو تستعيد السياسة جوهرها كفنّ للحوار، والتوازن، والتقدير العقلاني للمصالح والمبادئ معًا.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى