مقالات لن تموت : “الوعيُ الديقراطيُّ والوعيُ المتأخرُ”..
مقدمة الناشر:كتب المناضل الكبير محمد الحبيب طالب، من مؤسسي اليسار الجديد، منظمة 23 مارس السرية، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي ، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، كتب هذا المقال في العدد 2 من جريدة أنوال ، سنة 1979، ويشكل هذا المقال، رغم تواضع صاحبه، أرضية كبيرة ومهمة للتحولات التي سيعرفها اليسار الجديد بعد سنوات من السرية والمعاناة مع الاستشهاد، وفاة عدد من المناضلين، والمضايقات والمطاردات والاعتداء على الحريات والاعتقالات السياسية والمنفى الاضراري، لهذا صنفته ضمن المقالات التي لن تموت، سيبقى حيا حاملا لمشروع ديمقراطي في منطقة ملغومة بالثقافة التقليدنية وبالتأخر التاريخي والوعي المتأخر.. هذا المقال هو الذي استقطبني لصفوف منظمة العمل الديمقراطي الشعبي سنة 1981، وكان من الأدبيات الملزمة قراءتها داخل الخلايا الانتقالية من السرية إلى الشرعية بين سنوات 1979 و1983.. مقال لن يموت لراهنيته اليوم وجديته في خلخلة عدد من القضايا التي عادت الى السطح من جديد.الحسن باكريم
بقلم محمد الحبيب الطالب : “الوعيُ الديقراطيُّ والوعيُ المتأخرُ”*
“كنت أريد أن أعنون هذه المقالة ب «نحو منظور تاريخي للمسألة الديمقراطية». لكني لم أجد نفسي مؤهلاً ولا مسلحاً لمثل هذا الموضوع في مقالة ناطقة بتواضعها وبساطتها.”
وسيجد القارئ أن طريقة طرحي تقترب أو تتواصل مع وجهة نظر معينة في الوطن العربي. أخذت بالمنظور التاريخي في تحليل إشكاليات مجتمعاتنا المتخلفة. وأبرزت ضمن هذ المنظور «التأخر التاريخي» الذي يعاني منه مجتمعنا العربي. والمكانة الخاصة للبنية الأيديولوجية التقليدوية المهيمنة عليه.
وأعترف أن تأملي في الممارسة السياسية في بلدنا، وخاصة انغماسي في جدل الخلافات والنقاشات داخل اليسار في القضايا التي طرحتها علينا التجربة، هي التي ساقتني إلى هذه الاتجاه. وإذ لم تتح لي الفرصة، تحت ضغط الأحداث وحاجيات الممارسة النضالية المستعجلة، لكي أكون نظرة شاملة وعميقة في الموضوع، فإنني أعترف مسبقاً أن غرضي ظل هو امتلاك هذه الرؤية التاريخية الشاملة، حتى ولو بقي ما أطرحه الآن ملتصقاً تماماً بالحيز الضيق للممارسة المباشرة، وبقي بالتالي مجرد مدخل إلى هذه النظرة لا غير. أملي، إذن، هو أن يتعامل القارئ مع هذه المقالة على منوال المثل الصيني: «رحلة ألف ميل تبدأ بقدم واحدة».]
منذ أن استعاد النضال الديمقراطي بعض أنفاسه، والمناضلون الديمقراطيون الراديكاليون يخوضون هذا النضال على جبهتين:
الأولى: ضد أولئك الذين فرضوا هذا الظلام الكارثي على بلادنا، لأنهم استفادوا ويستفيدون منه.
والثانية: «مع وضد» الذين لم يروا بعد أهمية هذا البصيص من النور «الليبرالي»، لأنهم لم يروا بعد أهمية هذا النضال الديموقراطي برمته ومكانته في سيرورة التطور الثوري ببلادنا.
والحاصل أننا بهذا النضال المزدوج، كنا بمعنى ما، نسبح ضد التيار العام. وكان نضالنا هذا يبدو للمشاهد الخارج، أو للمتفرج – وما أكثرهم في بلادنا- وكأننا نخبة معزولة تبحث بدون جدوى عن «اللوكس» في بلد هو بأمس الحاجة إلى «الضروريات». فالجوع والقهر والذل كادوا أن يغمضوا أعين الجماهير عن الجذر الحقيقي لمأساتها الشاملة الذي هو في مأساتها السياسية. لقد كان السواد الأعظم من الجماهير – وهذه حقيقة لا يمكن نكرانها يقف هنا على أرضية الجبهة الثانية بسلبيته ولامبالاته، وبميولاته الفردانية، وخوفه.. إلى آخر الأوصاف التي تورثها قرون الاستبداد والتأخر.
وبمقدار ما كنا نشعر بالمرارة والقلق إزاء هذا الوضع، كنا ندرك بكامل وعينا أن الموقع الذي نحن فيه هو الموقع الراديكالي الحقيقي مهما بدا بطيئاً وتطورياً في مسافة ما منه. بل ومهما كان مظهره الظرفي إصلاحياً ومساوماً.
ملاحظة (1):
ثورويونا الرافضون يريدون «ثورة» بلا تراكمات، بلا تطور بطئ، جدلهم التاريخي مكون من سلسلة حلقات متصلة من القفزات النوعية لا تفصل بينها مسافات قصيرة أو طويلة. مسيرتهم ليست فيها تراجعات ولا منعرجات ولا محطات. الإصلاح في مفهومهم مرفوض ومرذول، ولا يمكن أن يدخل في تركيبة جدلية راديكالية.]
فمن بين كل الاختيارات المطروحة في الساحة الوطنية، سيظل الاختيار الديمقراطي الراديكالي هو الاختيار التاريخي الصحيح. ونقول اختياراً تاريخياً لأنه أكثر من تكتيك يطبق على ظرف معين، وأكثر من استراتيجية يشمل مرحلة اقتصادية اجتماعية سياسية. فيعد الذي رأيناه من التجارب الوطنية الفاشلة، وبعد الذي لازلنا نعاني منه من عجز وعطالة وقصور ذاتي في مجتمعنا العربي الحاضر، وبعد الذي شهدناه – أيضاً وأيضاً- في بعض التجارب الاشتراكية أصبحت لنا القناعة القطعية والثابتة بأن لا حل لكافة هذه المعضلات، ولا تحرراً حقيقياً، ولا أمل في الاشتراكية والوحدة القومية، إلا بالطريق الديمقراطي الراديكالي.
إشكالية الديمقراطية في مجتمع متأخر
في مواجهة البنيات المتأخرة القائمة، فإن الموقف من الديمقراطية يعني بالضبط الموقف من الديمقراطية الليبرالية. ذلك أن لا إمكانية لتجاوز الديمقراطية الليبرالية إلا إذا تحقق شرط هذا التجاوز. وهو أن تكون الطليعة العمالية والجماهير الكادحة قد تحكمت في زمام الأمور قولاً وفعلاً. وإنجاز هذا الشرط يحتوي في ذاته على مسيرة كفاحية تفترض وتتطلب بدورها نهوضاً جماهيرياً ديمقراطياً عميقاً. بل يجب القول إنه كلما كان هذا الوعي متجذراً في ذهنية الجماهير، وكلما كان منغرساً في البنية الإيديولوجية لحركاتها السياسية، كلما كان هذا التجاوز أعمق وأسهل وأضمن في اتجاهه العام نحو الاشتراكية.
منذ البداية، كان الإحراج الذي تطرح به إشكالية الديمقراطية في مجتمع متأخر ملموساً وبارزاً من الخطوة التاكتيكية الأولى: إذ كيف يمكن أن ندفع بأوسع الجماهير لتهتم بكل جوانب النضال السياسي الديمقراطي، بما فيها المعركة البرلمانية الملموسة التي كنا نواجهها، وسواده الأعظم غارق في حياته العائلية اليومية وفي لامبالاته السياسية، وأن نوضح لها في آن واحد محدودية البرلمانية وضرورتها بل وإيجابيتها؟ كيف نزرع الأمل في البرلمانية ونحن مضطرون في نفس الوقت أن نبذر الشك في قيمتها، وفي تربة لم تنبت على الإطلاق هذا النوع من الديمقراطية؟(2)
ملاحظة (2):
أ- هذه الإشكالية هي التي تفسر في نظرنا السلوك الإعلامي للقوى التقدمية في معركة الانتخابات. لقد انقلب هذا الإعلام فجأة من «الأمل» إلى «التشكيك والإدانة» بمجرد ما ظهر أن «المغرب الجديد» و«المسلسل الديمقراطي» وكل هذه الدعاية الواعدة والمتفائلة لا يمكن أن تستمر عندما انطلق المقدمون والشيوخ والقواد في عملهم المعتاد وعندما أدارت دواليب الدولة حركتها التقليدية المعادية للاحتكام الجماهيري الحر.
ومهما كان تقييمنا لهذه الممارسة من حيث صحتها أو خطؤها، فإننا نعي كما قلنا الواقع الجماهيري الذي فرضها أو الذي يبررها على الأقل، وأن تقيمنا في كل الأحوال ليس مطابقاً بالمطلق لتقييمات بعض السذج الذين تلقوا بالكلمات «المغرب الجديد» و«المسلسل الديمقراطي»، بذل أن يتفهموا الواقع الذي أمام أعينهم، والذين اعتقدوا أن العالم ساذج مثلهم، وكأن عشرين سنة من النضال السياسي لم تعلم أقل امرئ منا حنكة وتجربة أن الديمقراطية و«الأغلبية البرلمانية» لن تكتسب في معركة واحدة ولم تكتسب حتى في أعرق البلدان البرلمانية الدمقراطية، فبالأحرى في بلد متأخر كبلدنا. يا للجهل المضاعف أن يضفي المرء على الآخرين سذاجته لكي يتمكن من نقدهم؟!
ب- البعض منا يستنتج الديمقراطية من تقاليد شعبنا الجماعية الموروثة من النموذج التنظيمي الذي كان يسود القبائل المغربية، نقول، لم نكن لوحدنا ننفرد بهذه الميزة. ونقول أساساً أن هذه «الديمقراطية» القبائلية والعشائرية ليست هي التي نريد، وليست كإرث عاملاً إيجابياً مسبقاً في الوضع الراهن، لمسألة بسيطة وهي أننا بحاجة إلى ديمقراطية مبنية على وعي وطني، على وعي بالمواطنة وحقوقها، لا على التبعية العشائرية والقبائلية. استمرار هذا الوعي القبائلي لا زال يشكل عائقاً لامتلاك هذا الوعي الوطني الديمقراطي.]
إن هذه الإشكالية المنزوعة مباشرة من الحقل العملي تجد حلها بالتأكيد في خط استراتيجي راديكالي مؤمن بأن التطور هو لصالح الديمقراطية، ومؤمن بحتمية النهوض الجماهيري في سياق الممارسة الديمقراطية لا خارجها.
لكن إثارة هذه الإشكالية التاكتيكية لا يخلو من مفارقة طريفة، كانت في نظري هي الشكل الأول والملموس لمعضلة نظرية وسياسية عميقة:
إن المناضلين الراديكاليين في أوربا وفي روسيا المتخلفة عنها، كانوا يواجهون في الواقع، وفي مرحلة ما من تطور نضالهم، وهماً جماهيرياً بالإصلاح البرلماني البورجوازي، ولقد كانت مهمتهم، بالتالي، هي أن يحاربوا هذا الوهم، الفعلي، الجماهيري، الموجود، من داخل البرلمانية البورجوازية نفسها. وجدل لينين في مرض الطفولة اليسارية يمضي كله في هذا الاتجاه. أما نحن، فإننا لا نواجه في الساحة الجماهيرية هذا الوهم الإصلاحي، إننا بالأحرى نريد أن نزرع «البرلمانية» لنتجاوزها.
دافعهم هو وجود الوهم الإصلاحي، دافعنا بمعنى ما هو «النقص في هذا الوهم» وبكلمة دقيقة هو الركود وهزالة المشاركة السياسية للجماهير(3)
ملاحظة (3):
الرافضون الرفضويون يعتمدون هذا الواقع المر، يستندون عليه حجة وبرهاناً على فشل ذلك التقدم الجزئي الذي حققه النضال في أول معركة له، يبررون هذه اللامبالاة، وعملياً يمجدونها ويقدسونها. وتخلق لديهم رد فعل عكسي يتجلى في تورم ثوروي مرضي لا يقدم الممارسة النضالية الفعلية.
والمتفرجون وهم كثرة كثيرة من المثقفين، يعتمدون هذا الواقع لتبرير هروبهم من العمل النضالي، بل ويعتمدون عليه لانتقاد الآخرين، لانتقاد القوى التقدمية التي تكدح وتشتغل، هكذا ليرضوا أنفسهم، وليخلقوا لديهم الإحساس بالتفوق والمعرفة.
كلاهما يهرب بطريقته الخاصة من العمل الصبور، وكلاهما يلعب موضوعياً لعبة الحكم في إدامة الوعي المتأخر سائداً، بل هم حاملو هذا الوعي والواعون له بطرق مقلوبة.
إن السؤال الذي تكشف عنه هذه الظاهرة العملية أو التاكتيكية هو: كيف يمكن أن نزرع الديمقراطية في بنية اقتصادية وسياسية متأخرة، وتتسم بركودية الجماهير وهيمنة الأيديولوجية التقليدوية عليها؟
بادئ ذي بدء، أريد أن أزيل الستار عن مغالطتين ساهمتا إلى حد ما في تبرير الأمر الواقع وفي المزيد من تأخير الحركة الجماهيرية وفي استمرار الأنماط التقليدية القائمة:
1- الاشتراكية كنظرية لا تلغي بجرة قلم القيم التقدمية البورجوازية، بل هي تتمثلها وتتجاوزها في آن واحد. والديموقراطية الاشتراكية لا تنفي بدورها الديمقراطية البورجوازية نفياً قاطعاً. إنها، أيضاً، وعلى نفس المنوال، تتضمنها وتتجاوزها جدلياً. سيادة الشعب، حقوق المواطنة، حرية الرأي والمعتقد، المساواة القانونية، مساواة الرجل والمرأة، استقلالية القضاء. هذه القيم وغيرها تتبناها الديمقراطية الاشتراكية وتجعل منها أكثر شمولية وواقعية. بإشراك أوسع الجماهير في السياسة وفي ممارسة السلطة وبإلغاء كل العوائق الموضوعية والذاتية التي كانت تكبل الجماهير في ممارستها لهذه الحقوق، والتي تديمها تحت هيمنة الطبقة البورجوازية.
ونضيف أن ما يسمى اليوم بالديمقراطية البورجوازية، كما هي مطبقة في أكثر البلدان الغربية نموذجية، ليست بكاملها من صنع الطبقة البورجوازية بنفسها. فبين بدايتها يوم كانت البرلمانات حكراً على دافعي الضريبة البورجوازيين، وبين ما هي عليه اليوم كديمقراطية مفتوحة على كل الناس ومن كل الطبقات، رجالاً ونساء وشباباً، وعلى تنظيمات الطبقة العاملة النقابية والسياسية، والمنيعة من «الانحرافات» البونابارتية والفاشيستية و(الاستعمار)، بين هذا وذاك مسافة نضالية طويلة صنعت فيها كفاحات الشغيلة والجماهير الكادحة و«الشعوب المستعمرة» هذا التقدم الذي تفتخر البورجوازية به اليوم لحسابها الخاص. ذكرت بهذه الملاحظة التاريخية السريعة حتى لا يضيع «عمل الخياط في ثوبه» على حد تعبير ماركس.
ولكي يتعلم الرافضون للديمقراطية البورجوازية أن الطبقة العاملة كافحت من أجلها وساهمت إلى حد كبير في صنعها، ولم ترفضها هكذا لأنها بورجوازية في انتظار يوم الخلاص الشامل. وهذا لا يخالف ولا يناقض أن تطور الديمقراطية البورجوازية إلى هذا المستوى كان متضمناً كإمكانية في بنية النظام الرأسمالي الاقتصادية والفكرية والسياسية. هذا النظام الذي هو في التعريف التاريخي الأخير ثورة بورجوازية.
2- الواقع القائم ليس بنظام رأسمالي و لا بنظام ليبرالي. هذه حقيقة بديهية، ولذلك يجب أن يزول تماماً من مصطلحاتنا تعبير «الليبرالية» على ما يجري في المغرب سواء في الميدان الاقتصادي وسواء بالأحرى في الميدانين السياسي والفكري. هذا خلط يشوش حقيقة الصراع الراهنة ويعطي للطبقة السائدة قيمة وقوة لا تمتلكهما.
إن الذين في مصلحتهم وإلى النهاية وبدون تردد إشاعة الديمقراطية السياسية الليبرالية هم الطبقات الكادحة، وليس بالمرة الذين يهرولون عند كل انتخاب أو إضراب إلى الأساليب القمعية أو التزويرية خوفاً من إرادة وكفاحية الجماهير.
ومع هذا المفهوم، يجب أن نحارب مفهوماً آخر أخطر منه، وهو مفهوم «الأصالة» في ميدان الديمقراطية. والأصالة هنا كالأصالة بوجه عام في كل الميادين الأخرى وخاصة منها الميدان الفكري والأيديولوجي، إذ عبر هذا التبرير تخصى الديمقراطية في كل البلدان العربية، وعبرها يتم التصالح والمحافظة على كل ما هو تقليدوي ومتأخر في مجتمعنا.
فمهما تغيرت أشكال الديمقراطية من بلد إلى آخر، ومهما كان التقدم الاقتصادي والاجتماعي محققاً أو ممكن التحقيق، فلا تنازل عن أولوية الديمقراطية ولا تنازل عن مضمونها العملي الذي يبقى في كل الأحوال واحداً من حيق المحتوى والأسس.
بعد هذا التوضيح، نعود إلى سؤالنا: كيف نزرع الديموقراطية في بنية متأخرة؟
لا شك بأن الطاقة الديمقراطية لأي نظام معين، تتحدد في الشرط الأخير بطبيعته وتطوره الاقتصاديين الاجتماعيين (الطبقي). ولكن من حسن حظنا أن النظرية الاشتراكية قد بدأت منذ مرحلة ليست بالقصيرة تتخلص من التأثيرات الدغمائية التي طبعتها في المرحلة الستالينية، ومن حسن حظنا أن النظرية الاشتراكية في البلدان العربية بالذات قد دخلت هذه السيرورة، فاستعاد الفكر الاشتراكي بالتالي رؤيته التركيبية الجدلية.
وأخذت مقولة «التأثير المتبادل» بين البنيات المتراكبة (وأقول بين بنيات متراكبة، سياسية، اقتصادية، أيديولوجية وليس داخل بنية واحدة مسطحة على نفسها كالورقة التي نكتب عليها) لنظام إنتاجي معين كل أبعادها وغناها الجدلي العيني (الجديد في الموضوع ليس هو الاعتراف بحد ذاته، بل التحديد العيني لدرجة وأشكال هذا التأثير بين البنيات المختلفة).
وهكذا تخلصنا من الحلقة المفرغة التي تسقطنا فيها النزعة الدغمائية، فيما أن البنيات الاقتصادية متأخرة، فإنها ستولد حتماً بنيات سياسية وأيديولوجية متأخرة. إذن لا مخرج من هذه الدراما التاريخية ولا مفر من هذا المأزق المسدود. لا أبداً ! يمكن لنا أن نستنهض قوانا السياسية والأيديولوجية، يمكن لنا أن نجددها وأن ندقع بها إلى أبعد من الواقع المتأخر، يمكن لنا، بالتالي أن نغير الواقع وأن نفلت من شباك التأخر، هل سينمو هذا التجديد وهذا التجاوز السياسي والأيديولوجي في تناقض مع نمط الإنتاج القائم- وعلاقاته السائدة- هل سيتطور ضده أولاً وعلى أنقاضه ثانياً؟ نعم وبكل تأكيد..
هذه الخلفية المنهجية الدغمائية التي لمحنا إليها، تعطي على الصعيد السياسي فهمين ميكانيكيين منحرفين للمسألة الديمقراطية في البنى المتأخرة:
أولاً- من استحالة إقامة برلمانية ديمقراطية فعلية على قاعدة اقتصادية متخلفة وطبقة رجعية سائدة، تستنتج عبثية ولا فائدية النضال الديمقراطي البرلماني الجماهيري. هذا الاستنتاج فوق أنه يقفز بدون حذر على إمكانية التفاوت بين بنية اقتصادية وبينة سياسية يحول في الواقع عداوة الطبقة السائدة للديمقراطية إلى عداوة من الجماهير لها، ينقل العجز واللامصلحة من دائرة الرجعية إلى دائرة الجماهير الكادحة التي تنسجم الديمقراطية مع مصالحها وتخدم تعارضها مع البنية الاقتصادية القائمة. هذا الاستنتاج ينسى أو يتجاهل أيضاً أن داخل كل بنية هناك تناقض طبقي. ولذلك نقول إن هذا النوع من التفكير «الطبقي جداً» و«الديمقراطي جداً» يشخص تماماً أيديولوجية التأخر رغم هذه المظاهر الزائفة.
ثانياً- ومن تأكيدنا وتشديدنا على ضرورة الطريق الديمقراطي الراديكالي لإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية، يستنتج إجحافاً وقسراً أننا نتصور التطور، وندعو إليه، على أنه صراع برلماني سيمضي إلى نهايته التقليدية. هذه مزايدة أيديولوجية تأخرية. وإذا كانت طبيعتها «المزايدة» لا تحتاج لنؤكد مصداقيتها، فإن طبيعتها ك «تدليج» للتأخر تحتاج منا لبعض التوضيح:
خارج تجربة الشيلي التي انتهت إلى النتائج المعروفة، لم يقم أي تحول اشتراكي أو تحرري على قاعدة التطور البرلماني التقليدي، لكن الإشكالية ليست في مجال الوسائل أو أشكال تحقيق الديمقراطية وإنجاز التحرر الوطني والتحول الاشتراكي، إنها بالضبط في مدى امتلاك الجماهير الشعبية للوعي الديمقراطي، في مدى تمسكها بحريتها السياسية، في مدى وعيها بحقوق ومسؤولية المواطنة، في مدى انشغالها بشؤون الدولة، أي في مقدار امتلاكها لوعي السلطة في صراعها الطبقي، وفي مدى فهمها لميكانيزم المجتمعات الحديثة. وتزداد هذه القضية أهمية وحسماً في بلد لم يعد يواجه صراعاً وطنياً مباشراً، بل صراعاً طبقياً مباشراً وإن كان بهدف وطني (ضد الامبريالية). والإشكالية كلها في كيف نجعل الجماهير تهتم بكل هذا وتناضل من أجله، لأنها إذا لم تمتلك هذا الوعي، فإن حالة التأخر المجتمعي ستستمر قائمة.
ورفض هؤلاء «للبرلمانية» التي هي التشخيص الأولي للتقدم في الوعي الديمقراطي والتي هي وجه من وجوهه، يصب في طاحونة التأخر واللاتسييس.
الوعي الديمقراطي والوعي المتأخر
نحن بحاجة إلى وعي ديمقراطي راديكالي للانفلات من التأخر، فبأي معنى وفي أي اتجاه؟
بجانب نضالنا من أجل قيادة الطبقة العاملة للثورة الوطنية الديمقراطية، نعمل وندعو إلى النهضة باعتبار أنها تضمنت في الفكر الإنساني مدلولاً يدمج في حركة جماهيرية عريضة وكثيفة بين التجديد الثقافي والتجديد السياسي في آن معاً.
إن هذه الدعوة النهضوية- بالمعنى الإيجابي للكلمة- أو هذا الكفاح الديمقراطي الراديكالي هو طريقنا لإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية والوصول إلى التحول الاشتراكي، وفي أوضاعنا الراهنة نتوخى منه ثلاث نتائج مترابطة في ما بينها:
أولاً- تحديث البنية الأيديولوجية لمجتمعنا؛ وهي البنية التي استقرت أو وركدت لمدة قرون على قاعدة الأيديولوجية التقليدوية. هذه الأيديولوجية لا تستقل بها الطبقة السائدة وحسب، بل هي متجذرة في كافة البنيان الطبقي القائم وبالأساس في وعي الكتلة الشعبية الساحقة التي هي محط اهتمامنا وتوجهنا. لقد أوضحت التجربة العربية على وجه الخصوص أن العائق التاريخي لتأخرنا ظل ولا يزال هو سيادة الأيديولوجية التقليدوية في تفكيرنا وممارستنا السياسية، وأن أي تقدم اقتصادي اجتماعي تحقق أو سيتحقق في هذا البلد العربي أو ذاك، في ظل التعايش مع هذه الأيديولوجية صراحة أو ضمناً، لم ولن يحرر الأمة العربية من هذا الاحتجاز والتأخر اللذان هي فيهما. هدف هذا النضال، إذن، هو إعطاء القاعدة الرافعة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي المطلوبين.
ثانياً- دمج الكتلة الشعبية الكبيرة والهامدة من الجماهير في الحياة السياسية، أي إرساء الأساس الثابت، أو العنصر التاريخي الذاتي لرسوخ الديمقراطية كنظام حكم وكعلاقات اجتماعية.
ثالثاً- تقوية الوعي الوطني والقومي والدفع باندماجهما، أي تجاوز الوعي الما قبل قومي- وبالتالي توفير القاعدة البشرية والمجتمعية لأي تقدم اجتماعي هائل- لإنجاز التحرر العربي ولبناء الاشتراكية (وبعد، هل من الصعب اكتشاف الصلة الصميمية بين الرفضوية التي هي في العمق أيديولوجية تقليدوية وبين سقوطها في معاداة الديمقراطية والوطنية؟).
هذه هي الميادين الرئيسية لهذه النهضة المنشودة، وهذه هي الدوافع الكبرى لتجاوز معضلة التأخر الذي تعاني منه مجتمعاتنا العربية، إلا أنها تحتاج إلى وعي طليعي من نوع خاص؛ وعي متحرر هو الآخر من أشكال الوعي المتأخر، نقول في مواصفاته الرئيسية ما يلي:
• في مواجهة التحديد الطبقوي الاقتصادوي يمتلك هذا الوعي، ويتضمن، التحديد الطبقي المادي الجدلي، ويمضي به إلى التحديد التاريخي المجتمعي.
• في مواجهة التسرع الاشتراكوي (الاشتراكية مفهومة هنا كعملية تنموية) يؤكد هذا الوعي ويشدد على الإنجاز الوطني الديمقراطي مفهوم كقلب شامل للمجتمع، وتحديث لبناه السفلى والعليا. وهو مشروع شاق وطويل وعميق.
• في مواجهة الأيديولوجية التقليدوية يؤكد هذا المفهوم على العقلانية أولاً، وعلى مواكبة قيم العصر الحديث ثانياً.
• في مواجهة الإقليموية والأشكال ما قبل القومية، يؤكد هذا الوعي على القومية كمشروع مستقبلي لم نمتلكه بعد، وعلينا أن نمتلكه كرافعة للتحرر العربي وللتحول الاشتراكي وللتحديث المجتمعي.
• في مواجهة الرومانسية الثوروية في الميدان السياسي، يؤكد هذا الوعي على الواقعية الثورية.
ولأننا محورنا هذا الموضوع على المسألة الديمقراطية، فإننا سنمضي أكثر في تحديد بعض خصائص الوعي المتأخر في الميدان السياسي.
قد يقول قارئ إننا تجنينا على الحقيقة في اعتمادنا المعركة الديمقراطية الماضية مقياساً لتقييم الموقف الرافض بالوعي المتأخر. هناك جانب من الحقيقة في هذا القول لأن سوء التقدير وسوء التصرف ممكنين في العمل السياسي، ما دام ليس بمقدور أي كان أن يمسك الحقيقة بعملية حسابية قاطعة لا تقبل الشك.
لكن عدد هؤلاء قليلون بينما الأغلبية الساحقة اتخذت موقفها الرفضوي عن أسس منهجية ثابتة هي التي أخذناها على محمل الاهتمام والتأمل لنشخص فيها النموذج الأمثل لأشكال الوعي المتأخر. ونضيف أن هؤلاء في رأينا يشكلون استمراراً لنفس التناقض أو العاهة التي لازمت تاريخ الحركة الوطنية.
ومن هنا بالذات تأتي أهمية نقد هذا «الفكر» الرفضوي وكشفه على حقيقته كوعي متأخر يعبّر على، ويؤدلج، التأخر المجتمعي. وسأنتقي سمتين رئيسيتين ثابتتين في منهجية هذا الوعي المتأخر مما يجعلان منه دون الحد الأدنى من الواقعية والعقلانية اللذين هما الشرط المسبق لأية سياسة حديثة، فبالأحرى سياسة تزعم لنفسها الثورية. وبديهي أن غياب الواقعية والعقلانية يترك المجال فسيحاً للذاتية في التحليل وللإيمانية في الأيديولوجية.
أولاً: غياب المصلحة وحساب الفائدة
بدل تحليل الواقع بعين نافذة تمسك بالمصالح الموضوعية لمختلف القوى والاتجاهات، وتحليل الشروط الموضوعية التي تدفع بها لتعبر عن مصالحها في هذا الموقف أو ذاك، وبعدها يتم تحديد الموقف المطلوب اتخاذه انطلاقاً من المصلحة الشعبية المستقلة أولاً، ومن إمكانية الدفع بتحقيقها ثانياً، أي تعيين المصلحة وحساب الفائدة في كل وضع ملموس، بدل كل هذا، يختزل الوضع السياسي إلى مجرد وصف واجترار وتفنن في استنباط مخطط كما قد يكون في مخيلتها [القصد هنا هو مخيلة القوى الثوروية]، لا كما تفرضه عليها الأحداث وشروط الصراع، وكما ستفرضه عليها في حالة تدخل عملنا الواعي في صنع هذه الأحداث والشروط.
والخلاصة الدائمة والجوهرية لمثل هذا التحليل الذي لا يمسك بكل تفاصيل الواقع الموضوعي وتطوره، هي أن «الآخر يريد بنا شراً»، وكأننا بحاجة دائمة لإقناع أنفسنا بهذه الحقيقة الأولية، والمهزلة أن يعتقد المرء في نفسه أنه بهذه الخلاصة يكتشف شيئاً جديداً وعميقاً، بينما هو يكرر مسلمة بدائية. قصداً استعملت كلمة «الشر»، لأن هذا المنطق لم يفارق مضمونه بعد صراع هذه الثنائية الأخلاقية بين الشر والخير. ولنأخذ مثلاً، ألم نسمع بأن الإمبريالية عازمة بعد هزيمتها في الڨيتنام على تشجيع أتباعها المحليين لإقامة مؤسسات برلمانية شكلية، وأن أتباعها أنفسهم محتاجون لذلك «للتنفيس عن أزماتهم الداخلية ولتخدير الحركة الجماهيرية»، ولذا علينا ألا ننخدع بهذه اللعبة الإمبريالية الرجعية وعلينا أن نحاربها.. أليس هذا هو جوهر الموقف الرفضوي سواء انطلق من المخطط الإمبريالي أو اقتصر فقط على مخططات الأنظمة المحلية؟ أليست النتيجة كما قلنا هي أن «الآخر يريد بنا شراً»!
إن الأسئلة التي لا يستطيع هذا النوع من التفكير أن يقرأ بها الواقع لافتقاده حداً أدنى من الموضوعية والعقلانية هي: لماذا تضطر الإمبريالية إلى هذه الخطة، هل لأنها في موقع دفاعي أم لأنها في موقع هجومي؟ ولماذا تضطر هذه الأنظمة دون أخرى إلى إقامة هذه المؤسسات، أليس ذلك على ارتباط بميزان القوى الداخلي؟ وهل يلبي هذا التطور جزءاً من مصالحنا في الشروط الراهنة لميزان القوى أم انه ضدها بالكامل؟ وهل لنا القدرة على أن نفرض ما هو أكثر، وغذا لم يكن بإمكاننا ذلك فما هي الممارسة التي تجعلنا نستفيد ونتطور دون أن نعرض كامل قوانا للخسارة والتراجع؟
هذه الأسئلة التي تتطلب نظرة موضوعية للصراع واعية بمصالح أطرافه، وممسكة بالمصالح الشعبية المستقلة وبقياس الفائدة العقلاني لتحقيقها في كل وضع ملموس.. هذه الأسئلة لا تخطر بذهنية ذاتية إيمانية لا تعرف معنى لمقياس الفائدة في العمل السياسي، ولا تملك في الصراع إلا مصلحة مجردة غير عينية. الفرق بين هذه الذهنية وبين الذهنية العقلانية، حتى ولو كانت بورجوازية، هو فرق التأخر. والفرق بينها وبين الذهنية المادية الجدلية، أو الواقعية الثورية، هو فرق يقاس بالزمن الضوئي.
ماذا يعطي هذا النوع من الممارسة؟ التشنج، اللخبطة، التهور، الانتحار السياسي، هذه هي أفضل النتائج الممكنة.
ثانياً: تجاهل ميزان القوى وانعدام مخيلة التطور
تعيين ميزان القوى في كل وضع مسألة حاسمة في العمل السياسي. تجاهلها يؤدي بالتأكيد إلى الانفصام عن الواقع والارتطام به. طبعاً، يجب أن ننظر إلى ميزان القوى في حركيته. لكن هذه الرؤية المستقبلية يجب أن لا تحجب على الإطلاق حالته الواقعية الراهنة التي هي أساس الانطلاق والحكم. الوعي المتأخر لا يستوعب تماماً، أو بما فيه الكفاية، مقولة ميزان القوى كمحدد في الممارسة السياسية. جهله للحساب والجبر السياسيين، لافتقاده لأساس عقلاني، يدفع به إلى (ممارسة) وفهم الصراع الطبقي بشكل تجريدي «كلامي أو لفظوي» لأنه غير مادي، وغير محدد حسب الأوضاع الخصوصية. ليس هناك صراع طبقي مجرد. هناك دائماً صراع طبقي ملموس، محدد، معين، خصوصي، قوامه دائماً نسبة معينة في ميزان القوى.
هذا يقودنا إلى جوهر أزمة الفكر المتأخر الدائمة التي هي انعدام التاكتيك كمقولة فكرية وكفن للممارسة. وهذا معناه أن الفكر المتأخر يمارس استراتيجيته على فراغ أو بياض، التي تصير بالضرورة وهمياً مثالياً لا قيمة له.
العلاقة بين التاكتيك والاستراتيجية هي بمثابة العلاقة بين العام والخاص، فالخاص هو العيني المباشر، ولذلك قيل إن التاكتيك هو قمة التكثيف الاستراتيجي، وكما أنه لا وجود للعام إلا في الخاص، كذلك لا وجود للاستراتيجة إلا في التاكتيك، ودون أن يفهم من هذا أن التاكتيك لا توجهه الاستراتيجية، بل فقط أنه تضمينها، تشخيصهاـ تكثيفها، تعيينها، حضورها المادي. ولذلك، فإن إعدام التاكتيك يعني إعداماً للاستراتيجية.
ولأن الوعي المتأخر لا يملك هذا الفهم العيني المادي للاستراتيجية، فإنه يقف عاجزاً عن استيعاب أو استباق الدور الفعلي أو النتائج المترتبة عن تاكتيك معين. ويظل السؤال دائماً في ذهنه معلقاً وبدون جواب: هل فعلاً سيصب هذا التاكتيك في الاستراتيجية؟! وهذا يعود بالأصل إلى أنه لا يمتلك مقدمات عقلانية للحكم على خطأ او صواب تاكتيك معين، ولا يقبض على المحددات الضرورية لمثل هذا التقييم: ميزان القوى، الفائدية، فعل الزمن (الديناميكية، الحركة، التطور).
قلت فعل الزمن (الزمن لا يترك حقائق الأمس ثابتة كما كانت) وهو يظهر في نشاط الجماهير وتدخلها في صنع الأحداث وهي تنجز مهمات تاكتيكية محددة. هذه الممارسة تخلق في حصيلتها وضعاً جديداً متقدماً. وهذا الوضع الناشئ يكون هو الحلقة المادية الملموسة التي كانت تشد التاكتيك ضمنياً أو منطقياً بالاستراتيجية. إن القدرة على استشفاف كل هذا هو ما تعمدت على تسميته بمخيلة التطور. ولإن الوعي المتأخر يفهم الصراع الطبقي فهماً تجريدياً صوفياً، وليس في شكله المادي كما بينا في ما سبق، فإنه لا يملك القدرة على هذا الاستشفاف، لأنه، بمعنى آخر، لا يفهم على الإطلاق أن المسافة التي تفصل بين التاكتيك والاستراتيجية، والتي تستمر قائمةً ماد دام الوضع غير ثوري (وهي مصدر حيرته وشكه العدمي المطلق في أي تاكتيك) لا يملأها بالكامل أي تحليل منطقي، بل تملؤه ممارسة الجماهير التي وحدها تخلق الرابط المادي بخلقها وضعاً جديداً متقدماً وهي تنجز أهدافها التاكتيكية. إنها إذن مسافة نضالية عملية، أو المجال الذي تتركه النظرية للممارسة العملية.
لنوضح من التجربة: لا شك أن المعركة البرلمانية الفائتة كانت بمثابة معركة تاكتيكية بالنسبة لأي ديمقراطي واع، لأنه لا يحلم، ولم يكن ليحلم، بأن البرلمان سيكون كاملا ديمقراطياً دفعة واحدة. وهذا الموقف مبني على مقدمات عقلانية موضوعية. هي أولاً، تقدير سليم لميزان القوى، يدرك ببرودة أعصاب وبدون تشنج أنه لا زال مائلاً لمصلحة أعداء الديمقراطية. وثانياً، إدراك صاح بالمصلحة والفائدة، مصلحتنا في الديمقراطية لأنها تخدم نضالنا، والفائدة في استغلال البرلمان بتكامل مع كل الوسائل النضالية الأخرى لتقديم الوعي الديمقراطي لدى الجماهير ولتطوير ممارستها.
الوعي التأخر، بحكم أنه لا يملك هذه المقدمات العقلانية، بل يختلك لديه الموضوعي بالذاتي، وحكم الرغبة بحكم الواقع، لا يستطيع أن يتفهم ويستوعب كل معاني هذه المعركة الجزئية، ولا يستطيع أن يستوعب مادياً، عقلانياً، آفاقها وتأثيراتها على الحركة الجماهيرية. فهو دائماً سيلاحقك بسؤاله المشكك العدمي: وما الذي سيقنعني ويؤكد لي أن هذا التاكتيك سيصب فعلاً وحتماً في استراتيجية التغيير؟ هذا السؤال نابع بالضبط من أن أصحابه لا يملكون أهدافاً مرحليةً ولا يرون أمامهم سوى الفراغ. ولأن بذهنهم فراغاً تاكيتيكياً، ليس لديهم توسطات بين المبادئ والأهداف والواقع، وبالتالي ليس لديهم مكان لممارسة الجماهير التي تناضل دائماً على أهداف محددة، تاكتيكية (حتى لحظة التغيير السياسي النهائية تكون في وقتها لحظة تاكتيكية محددة). وهذا ما يجعل مخيلة الوعي المتأخر ناضبة قاحلة وجرداء لا حياة فيها، أي لا تطور ولا تدرج ولا جدل.
ومن طبيعة هذا الوعي أن يحل حكم الرغبة محل حكم الواقع، ألم يقم الموقف الرفضاوي على حيثية أن البرلمان سيتمُّ (وتمَّ) على الإكراه والتزوير. ألا يعني هذا الرغبة في الديمقراطية بدون مواجهة، بدون صدام، بدون صمود، بدون عمل مقرون بالسجون، بدون عرق مبلل بالدم، أي بدون صيرورة نضالية التي فيها، وفيها وحدها، تُكوّن وتستكمل الجماهير وعيها الديمقراطي وتغير موازين القوى لصالحها. هذا الوعي الرفضاوي يؤكد تأخره بتناقضه مع التجارب التاريخية ومع أبسط قواعد العقلانية الموضوعية. الشيء الذي يبرر من جديد طبيعته كأدلجة للتأخر المجتمعي.
ما تحقق، وما لم يتحقق
أشرت في معرض حديثي أن هذا الوعي المتأخر كان العاهة التي لازمت الحركة الوطنية. ومن هنا تأتي أهمية نقده وتعرية طبيعته كأدلجة للتأخر.
لقد خضنا نضالنا الوطني والاجتماعي منذ الدخول الاستعماري إلى اليوم بأيديولوجية تقليدوية صريحة أو خفية. ولعل التغير الهام الذي حدث خلال هذه السنوات الأخيرة هو أن «السلفية»، كتيار حزبي، قد انتقلت تماماً إلى مواقع سياسية محافظة، بعدما طانت لمرحلة تخوض نضالاً، إلى حد ما، إصلاحياً(4)، بينما فقدت «اليسراوية» حتى تلك الجوانب الإيجابية القليلة التي تضمنتها في بداية السبعينات(5). وبين هذين الحدين القصويين تنمو ببطء بذور وعي ديمقراطي راديكالي في جدل مع النزعة الاقتصادوية التي لم تختلف في أساسها عن الأيديولوجية التقليدوية. هكذا تبدو الصورة على وجه الإجمال على صعيد «النخبة» السياسية. هناك إذن إيجابيات وتقدم لا زال مهدداً بأكبر المخاطر.
ملاحظة (4) :
قارئ التقرير الأدبي الذي طرح في المؤتمر السابع لحزب الاستقلال سنة 1965، باعتباره كان نقطة انعطاف جديدة في تاريخ الحزب، لا بد وأن يطرح على نفسه السؤال التالي: لماذا يعالج تطور أوربا الفكري بمنطق تاريخي نسبياً، حيث أن حلقات التطور تشد في بعضها البعض بقدر من العقلانية، بينما يعالج تطورنا ـ العربي الإسلامي ـ بغير هذا المنطق. لماذا تقبل السلفية منطق «التاريخ» و«العقلانية» تجاه الغرب وترفض ذلك في قراءتها لتاريخنا؟ والجواب كما هو واضح، بسيط، هي أن استعمال المنطق التاريخي العقلاني سيحطم الأساس الأيديولوجي للسلفية. ضمن هذه الإشكالية يندرج أيضاً خطأ التقرير في تقييمه للحركة القومية العربية، أي حركة الانفصال عن الدولة العثمانية وتشكل الوعي القومي.
ملاحظة (5):
بعض يسراويينا اطمأنوا لأنفسهم لأنهم اكتشفوا في آخر لحطة نظرية العوالم الثلاث والإمبريالية الاشتراكية فرموا ببلاياهم وبتأخر مجتمعهم على أقنوم جديد أو شيطان جديد «الإمبريالية الاشتراكية». واعتقدوا بعدها أنهم أصبحوا أكثر الناس تحرراً وثوريةً. هذه النظرية الفاسدة سياسياً ونظرياً ستزيد من ضياعهم عن الواقع، ستبعدهم عن المصلحة الوطنية والقومية، أي عن حقيقة الصراع التاريخي الذي يخوضة شعبنا وأمتنا ضد التأخر، وهو يتضمن من جملة ما يتضمن حساب المصلحة القومية، ستضاعف من تأخرهم المؤدلج، وستجعلهم أكثر غربة عن واقعهم، وأكثر كاريكاتورية مما كانوا وعاشوا.]
في الاتجاه العام امتلكت القوى التقدمية الوعي بأهمية الديمقراطية السياسية في صراعنا الطبقي، وكسبنا على أساس هذا الوعي، أو بتفاعل معه، أهمية التنظيم الحزبي والجماهيري، فاحتلت الجماهير، ولأول مرة، مكانتها الحقيقية كقوة خلاقة في المنظور العام لعملنا التاكتيكي والاستراتيجي. نعم، ليس هناك لهجة ظفراوية وردية. هناك نقد وتقييم موضوعي لإمكانيات الجماهير ولوعيها، ولكنه النقد الذي احتفظ بإيمانه العميق بقوتها وقدرتها على التجاوز والخلق والإبداع، وإلا لكان مكاننا بجانب المحافظين أو بجانب المتعالين عن العمل السياسي كما فضل العديد من الثورويين.
وخطوة بالتالي خطوة هامة لا يستهان بها في اكتساب الوعي السياسي ك «علم وفن تحريك الأشياء والبشر»، لأن السياسة، بهذا المعنى، كانت ولا زالت مرفوضة ومرذولة، لأنها في الوعي المتأخر نقيض «العمل الجدي» (هذا التعبير كان مصطلحاً يحمل أكثر من معنى في كامل المرحلة السابقة. أليس هذا هو سر الثنائية التقليدية التي سيطرت في الماضي على الحركة التقدمية طوال تجربتها: «العمل الجدي» و«العمل السياسي»؟! أليس هذا ما يفسر العداء المنتشر للحزبية في صفوف العديد من الشباب، عداء يَشتبه بالفوضوية الغربية لكن جذوره الثقافية والاجتماعية تختلف نوعياً عنها؟! في تربتنا الاجتماعية والفكرية والتاريخية عوامل عنيدة تعاند بإصرار العمل الحزبي المنظم، وتقاوم الكفاح الجماهيري المنظم).
ولهذا، نثمن بإيجابية كبيرة هذا النزوع الذي أصبح يعطي للتنظيم كل أهميته السياسية، مع تقديرنا للصعوبات الجمة التي تعترضه.
هناك إذن، إيجابيات في الوضع الراهن للقوى التقدمية، طبعاً لا ينظرها ولا يراها المتفرج البعيد المتعالي عن العمل اليومي، لكنها ما زالت مهددة بمخاطر كبرى، خاصة وأنها لم تأخذ بعد كل مدلولاتها النظرية، ولم ترتكز بعد على نظرية راديكالية مطابقة لواقعنا المجتمعي ولواقع عصرنا. هذه مهمة شاقة لكن يجب البدء بها لكي نردم الهوة التي كانت تفصل دائماً في تجربتنا بين النظرية والممارسة، ولكي نعطي ثانياً الثبات والرسوخ لهذا التقدم الساسي النسبي، بل ولكي نضمن تطوره في اتجاه راديكالي.
وهذه المسيرة لن نتمكن من التقدم في إنجازها إلا بما باستئصال كل ما هو تقليدوي في تفكيرنا، إلا بالتخلص من النزعة «التنموية» التي هي الأخرى شكل مدلس من أشكال الوعي التقليدوي. وبدون هذا التقدم سيظل ما هو إيجابي في الوضع مجرد تاكتيك قصير النفس قابل للاقتلاع في أي لحظة، وبالتالي سنعيد إنتاج أزمة الحركة التقدمية التي طالت واستطالت، أو في أحسن الأحوال سنترك الفرصة لمخرج آخر للأزمة المجتمعية القائمة الذي لن يكون في كل الأحوال المخرج الوطني الديمقراطي المنشود.
*جريدة أنوال المغربية، العدد 2، بتاريخ: 15 ديسمبر 1979، الصفحات: 8 و9 و10 و15. ركن «فكر وحوار».
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News