الصحافة بين حرية التعبير والتشهير ورش مفتوح
- الأمين مشبال* //
أثارت ندوة “الصحافة بين حرية التعبير والتشهير” التي نظمتها جمعية المرأة المحامية بتطوان يوم الجمعة 28 مايو 2024، بمشاركة الصحفي حميد المهداوي والأستاذ محمد حمداش المحامي بهيئة القنيطرة، مجموعة من الإشكاليات التي ترتبط بإحدى الظواهر المحلية والكونية المثيرة للاشمئزاز والخوف في نفس الآن.
فبقدر ما تثير ظاهرة التشهير الاشمئزاز لكونها ممارسة لا أخلاقية تروم قتل الشخص رمزيا عبر تشويه سمعته داخل أسرته أو محيطه المهني أو الاجتماعي باختلاق وقائع كاذبة أو بالكشف عن أسرار حميمة مثلا، مما قد يلحق أضرارا نفسية ومادية جسيمة بالضحية، فإنها تولد مشاعر الخوف باعتبار انعكاساتها الكارثية المحتملة على حياتها الخاصة أو العامة على حد سواء.
ما هو أكيد أن الظاهرة ليست وليدة اليوم، فلقد انتشرت في أوروبا خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي، وبلغت ذروتها في بريطانيا حيث اشتهرت باسم الصحافة الصفراء التي كانت متخصصة في النبش والتنقيب وتتبع حياة المشاهير الخاصة من رجال السياسة والأعمال والرياضة والفن (زواج، طلاق، علاقات غرامية، أسفار…) بحيث كانت تشبع فضول الجمهور الواسع بأخبار النميمة.
وبالمقابل كانت تلك الصحف تحقق من خلال الإقبال الواسع عليها أرباحا خيالية لحد جعلها لا تتردد أحيانا في نشر أخبار قد تعرضها لمتابعات قضائية، لأن الأرباح المادية التي ستجنيها من المبيعات أكبر بكثير من مبالغ التعويض المحتملة عند إدانتها.
أما بالنسبة إلى المغرب، فلقد انتعشت صحافة التشهير أو الصحافة الصفراء خلال تسعينيات القرن الماضي بحيث كان البعض منها يحظى بانتشار واسع (حوالي 100ألف نسخة أسبوعيا)، ويراكم الأرباح الخيالية من المبيعات التي تعتمد على نشر أخبار السرقة والجرائم، بل كان يكفيها مجرد التلميح إلى بعض التجاوزات أو صفقات بعض المسؤولين أو المنتخبين أو تجار المخدرات المشبوهة، حتى يسارع هؤلاء إلى “التفاهم” مع تلك المنابر على الصعيد المركزي أو عبر مراسليها في الأقاليم!
في نفس السياق، ومع طفرة الصحافة المحلية والجهوية في بداية تسعينيات القرن الماضي، برزت منابر إعلامية جهوية ومحلية (أحيانا كان نفس الشخص يقوم بتأسيس جريدة محلية في مدن مختلفة بنفس التوجه ولنفس الغاية) متخصصة في ممارسة البروباغاندا خدمة لمآرب خاصة، بحيث كان “خطها التحريري” يقوم على تأليف قصص وحكايات تمجد أصحاب السلطة والجاه والمال، وتشهر بمن كان “راسو قاسح” أو سولت له نفسه عدم أداء “الضريبة”.
دمقرطة التشهير:
إذا كان لانتشار مواقع التواصل الاجتماعي الواسع فوائد جمة من الجماهيرية والسرعة الرهيبة في تداول الأخبار، وفي التقليص إلى حد كبير من هيمنة وسائل الإعلام التقليدية التي تخضع إلى إكراهات الرأسمال الذي يضخ الأوكسجين في نموذجها الاقتصادي، فإنها بالمقابل أفسحت المجال لمن هب ودب ليدلي بدلوه عبر الفيسبوك، وتويتر، وتيك توك، ويوتوب، في مختلف القضايا مهما كانت دقيقة ومتشعبة ومعقدة.
هذا الواقع السريالي كان محط انتقاد وسخرية لاذعة من الكاتب والمفكر الإيطالي أمبيرتو إيكو لكونه يمنح: “حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء”.
شهد المغرب، بدوره، في العقد الأخير بروز عدد من الصفحات الفيسبوكية واتساعها، (ينتحل أحيانا بعض مؤسسيها صفة صحفي)، تكون في ظاهرها وسيلة للتعبير عن الرأي فيما يخص الشأن المحلي (بغض النظر عن مدى امتلاك أصحابها المؤهلات الفكرية والعلمية الضرورية لذلك)، غير أنها سرعان ما تتحول إلى أداة لرصد النميمة المتعلقة بالنخب المحلية ونشرها، وإلى وسيلة لتصفية الحسابات ما بين سياسيين أو ما بين “البزناسا” أنفسهم، أو لممارسة الابتزاز قصد الحصول على الأموال مقابل غض الطرف عن خروقات أو تجاوزات ما.
لمواجهة هذا الوضع يلجأ بعضا لمتضررين، إلى القضاء الذي يقد ينصفهم أحيانا، وقد لا ينصفهم إما لعدم توفر المعطيات الكافية لإثبات الضرر أو لتمكن بعض أصحاب تلك الصفحات من إخفاء هويتهم…الخ.
لكن على العموم، يظل تدخل الجهات المختصة لمواجهة
هاته الآفة متسما بالبطىء الشديد، عكس ما يحصل حينما يقوم شخص ما بالتعبير، على مواقع التواصل الاجتماعي عن رأي أو موقف تعتبره السلطة مسا بمقدسات البلاد.
الأدهى والأخطر من كل ذلك، مزاولة بعض الصحفيين التشهير ضد زملاء لهم أو ضد خصوم سياسيين للمؤسسات الإعلامية التي يشتغلون فيها، وهو أمر نبه إليه أزيد من 100 صحافي(ة) مغربي وقعوا على بيان بتاريخ 16 يوليوز 2020 ينتقدون فيه “تنامي صحافة التشهير”، وطالبوا فيه المجلس الوطني للصحافة ب” تحريك مساطر التوبيخ والعزل إزاء الصحفيين والمنابر التي تحترف التشهير والإساءة للأشخاص”، لكن للأسف الشديد لم يجد البيان والتنبيه المذكور الآذان الصاغية لدى القائمين على المجلس الوطني للصحافة الذي يتوفر، وفقا للقانون رقم 90.13 ، على “لجنة أخلاقيات المهنة والقضايا التأديبية” التي يندرج ضمن صلاحياتها البث في مثل هكذا تجاوزات وخروقات.
تمييز سلبي
ناضل الصحافيون المغاربة منذ عقود، ولا زالوا، من أجل توفير أفضل الظروف الممكنة لمزاولة المهنة بحيث لا تكون العقوبات السالبة للحرية مسلطة مثل سيف ديموقليس على رؤوسهم، ولا تغدو الغرامات التعجيزية خطرا على مقاولاتهم، خاصة أن وظيفة الصحافة والإعلام عموما، ترتبط بنقل الخبر والبحث عن الحقيقة، وتنشيط النقاش العمومي، وهو ما يستدعي توفرها على هامش واسع من الحرية ومن ضمانات حرية التعبير.
وفي الآن نفسه لا تزاول مهنة الصحافة ببلادنا، شأنها في ذلك شأن باقي المهن المنظمة بقانون، عبر الأهواء الشخصية لممارسيها بل هي مؤطرة من جهة بالقانون رقم88.13 المتعلق بالصحافة والنشر، ومن جهة ثانية بميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة. علاوة على كل ذلك فإن الصحافي مطالب بتكوين يجعله ملما بتقنيات التحرير الصحفي وبالأجناس الصحفية الكبرى (الربورتاج، الحوار، التحقيق، العمود…)، وبحد أدنى ثقافي ومعرفي يؤهله لتغطية وتتبع مجريات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تهم سير البلاد.
وبناء على ذلك، يمكن القول إن الصحافة مهنة جليلة ونبيلة، ناهيك عن الموقع الاعتباري للصحافي داخل المجتمع، الذي يستدعي من الإطارات المهنية التي تؤطر القطاع ومن السلطات العمومية، عدم غض الطرف والتساهل مع آفة التشهير التي قد يمارسها بعض الصحافيين سواء ضد زملاء أو زميلات في المهنة، أو ضد مواطنين بغية خدمة أجندات معينة أو تحقيق مآرب شخصية.
في هذا السياق نتساءل عن جدوى الإبقاء على التمييز في العقوبة المتعلقة بالتشهير حين يقترفه صحفي أو حين يرتكبه مواطن لا يزاول مهنة الصحافة.
فحين يثبت قيام الصحفي بفعل التشهير المنصوص عليه في المادة 89 من قانون الصحافة والنشر نجد أن العقوبة الصادرة في حقه لا تتجاوز في حدها الأقصى، غرامة 100 ألف درهم (الفقرة الأولى من المادة 85).
أما عندما يرتكب غير الصحفيين فعل التشهير فإن المتابعة حينها تتم طبقا لمواد القانون الجنائي: 1-447 و2-744 و3-744، بحيث تتراوح عقوبة السجن ما بين ستة أشهر وخمس سنوات، وغرامة مالية تتراوح ما بين 5 و50 ألف درهم.
الأكيد في نهاية المطاف، أنه آن الأوان لفتح نقاش مجتمعي واسع، قصد الوقوف على الأبعاد الأخلاقية والحقوقية والقانونية للتشهير والمس بالحياة الخاصة للأفراد، خصوصا مع اتساع رقعة تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، والأخطار التي قد تجلبها بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي من تزييف وتحريف لصوت وصورة الأشخاص.
*إعلامي وباحث
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News