الثقافة

الحسن كحمو:  هكذا كانت علاقتي بالأستاذ عباس الجراري..

  • بقلم  الحسن كحمو //

تربطني علاقة التلمذة بالأستاذ عباس الجراري، بفرع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفته مدرسا للأدب المغربي في السنة الجامعية (1966 ـ 1967)، وكذا علاقات إنسانية وتقدير متبادل بعد التخرج من الجامعة سنة 1968. تم تعييني بعد ذلك في سلك التعليم، فتجددت هذه العلاقات وامتدت من 1976 إلى 2009.

يتميز أستاذنا الجليل من جهة: 

  • في اعداد الدروس وبالصرامة في التعامل مع الطلبة ومع نفسه، كان أسلوبه في تدريس الأدب المغربي المكتوب بالعربية في عهدي الدولتين المرابطية والموحدية، ويتميز من جهة ثانية :
  • بالدفاع عن الشعراء والأدباء والمفكرين المغاربة في وجه ما يعتبره تحاملا للأندلسيين والمشارقة عليهم، ومن المعلوم أن الدولتين كانتا  تحكمان فيما يسمى الغرب الإسلامي (الأندلس وشمال إفريقيا) جزئيا، في عهد الدولة الأولى وكليا إلى حدود مصر بالنسبة للثانية. وتبدو هذا الموقف في تعزيز حس الانتماء إلى المغرب لدى طلبته، لذلك أعتبره شخصيا من أوائل من أسس لمفهوم (تامغربت) المتداول في 

في هذه الأواخر، تجددت علاقاتنا لاحقا، وهي بالتسلسل كما يلي : 

حضر إلى مدينة أكادير لإلقاء محاضرة بدعوة من فرع جمعية أصدقاء السينما والمسرح سنة 1976، وكنت عضوا في اللجنة التنظيمية داخلها، توفر لديه حيز من الوقت بعد العرض يريد أن يستغله في زيارة كل من (تالعينت) أولاد جرار وزاوية سيدي وكاك بأكلو، فأبديت له استعدادي لمرافقته إلى هناك، خصوصا والمكانان متقاربان يمكن زيارتهما معا قبل حلول وقت سفره، كانت الزيارتان فقط للإطلالة على دار القائد عياد بتالعينت، وعلى ضريح الولي الصالح سيدي وكاك.

وفي الطريق بدت علامات الانشراح على الأستاذ فخرج من صمته، عندما تواجدنا في سهلشتوكة، ومما قاله : ” يتحدث المختار السوسي في بعض كتبه عن طول أعمار أولاد جرار، فتساءل إلى أي شيء يرجع ذلك، أللماء أم الهواء أم لأشياء أخرى؟، ثم أضاف بأن له مشروعا لكتاب عن أولاد جرار، مواده جاهزة، ويساوره التردد في إخراجه.

شجعته على ذلك، واستفسرته ما عسى أن يكون سبب هدا التماطل؟ فعلل ذلك بتخوفه مما يمكن أن يصدر من بعض الجهات من ردود سلبية، فانتهزت الفرصة لأشكره على قبوله الإشراف على بحوث بعض طلبته السوسيين حول الثقافة الشعبية الأمازيغية : عمر أمارير ـ أحمد بوزيد …، فعلق على كلامي بالقول : ” يا أخي إن الفاسيين طغوا في هذا البلد، ويعتبرون أنفسهم وحدهم قطب الرحى فيه، وقد وصلتني انتقادات ومماحكات كثيرة حول جدوى إقدامي على تأطير هذه الدراسات.

وفي الرجوع ـ والسيارة تلتهم بهديرها الطريق ـ لاحظت ميل الأستاذ إلى الاستكانة، وكنت أود أن أطرح عليه السؤال الملح علي : ما علاقته بأولاد جرار، التي زرناها

كبحث لساني وقلت إنه ضيفي خفت من إحراجه فأحجمت عن السؤال، غير أن الأيام بعد عقود سيعر انتماء الأستاذ الجليل إلى أولاد جرار في الكراسة التي أنجزها الأستاذ عبد الرحمان مصدق  بمناسبة تكريمه بمشاركة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير والجماعة القروية الركادة، انتهز الفرصة للترحم على قبر جده بدوار (ألبوير) حيث يعرف محليا بأبي نخيلة كما توجد في نفس الكراسة إشارة للزيارة التي رافقته إلى هناك باعتبارها الزيارة الأولى  بدون ذكر التفاصيل. 

وبعد بضع سنوات سأزوره في بيته بالرباط عدة مرات للسلام عليه عندما أتواجد بالعاصمة في اللقاءات التربوية التي كنت أحضرها بصفتي مفتشا للغة العربية بالتعليم الثانوي.

 أما اللقاء التاريخي الأهم، كان عندما دعوته للمشاركة في أعمال الدورة الأولى للجامعة الصيفية في صيف 1980 بصفتي رئيسا لها، فقبل الدعوة عن طيب خاطر بعد أن اطلع على شعار : (الثقافة الشعبية الوحدة في التنوع) فكانت مشاركته بموضوع : (التراث الشعبي بين الخصوصيات  والوحدة).

قدمته للحضور وثمنت دوره الريادي وجرأته في الإشراف لأول مرة في الجامعة المغربية، (القسم العربي) على أبحاث الطلبة حول الثقافة الأمازيغية. أعقب العرض بعض التدخلات اعتبرها الأستاذ خارجة عن السياق فرد عليها بحزم.

بعد ذلك ستبث هذه المحاضرة على أمواج الإذاعة الوطنية مع النقاشات التي تلتها وكان من المستمعين إليها محمد أشماعو من مدينة سلا، أثاره اهتمام هذه الجامعة بالثقافة الأمازيغية، فاستنكر ذلك في مقالة بجريدة الأسبوع الصحافي معتبرا ذلك إحياء للظهير البربري، فانتصر للأستاذ المحاضر ضد منتقديه، تصدت للسيد أشماعو بعض الأقلام الأمازيغية المشجعة، فكان ذلك فرصة للتعريف بالجامعة الصيفية أكثر، ، لم تكن منتظرة في الوقت الذي حاولت كل الجهات محاصرتها.

اللقاء الثالث والأخير مع أستاذنا الفاضل كان في يوليوز 2009 عندما نظم (منتدى مبدعي الجنوب) يومين دراسيين لتكريمه، بكل من تارودانت وتالكجونت.

انهيال الذكريات وهيبة المناسبة دفعتني للمشاركة في هذا التكريم بقصيدة تشيد بمكارم الأستاذ وبدوره في رسم معالم الطريق التي سار فيه رعيل من الباحثين الشباب المهتمين بالثقافة الوطنية في تنوعها، شبهته فيها  ب (سيزيف) في الأسطورة اليونانية التي حكمت عليه الآلهة، بنقله الدائم لصخرة بين السهل والجبل.

ذكاء الأستاذ الجراري بارز ويتمثل في التخلي عن هموم حمل صخرة الثقافة الوطنية ورميها على أكتاف الأجيال الصاعدة.

رحم الله فقيدنا وأتابه أجل التواب على ما قدمه لبلده ولطلبته، كان محبوبا بصدقه وشامخا في تواضعه ومتحررا في تفكيره، وعلى إثر غيابه عنا باحت قريحتي في فقدانه بمقطوعة شعر بأمازيغية سوس، مهد أجداده :

تْروحْ تافوكْتْ ياكي ياحْ سولْ إضْصْ 

زْريحْ أيُّورْ حْ إيكْنْوانْ لَّاسْنْ

يوكَّدْ عبَّاسْ نْزْ راتينْ حْ أولينْوْ

إمالْ نْ لْغرْبْ سودان أيِّسْ إفْغْ

مادوسينْ؟ أوسينْ كيكانْ نْكْ أسِّعْرْ

يورو لْبازْ حْ إيجريفْنْ أرَّاوْنْ 

كْسانْ أكالْ دْ إيكْنْوانْ راحيْتْ      

ترجمة النص

الشمس غابت فجفا جفني المنام، وراقبت القمر في الجبال انطفأ، أطل عباس لمحت ألقه في الفؤاد، غدُ الغرب في شموخ ركب الحصان، ماذا يحمل في الهام؟ غيرة الأوطان، ولد النسر في الجبال الفراخ يحرسون الأرض والسماء ياعباس ياعباس ارتح ارتح.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى