
النقاش العمومي في زمن الخوارزميات: حين تتحول الحقيقة إلى انفعال..
- حسن كرياط //
في خضم ما أفرزته احتجاجات جيل Z من ديناميات غير مسبوقة، تبرز أزمة عميقة لا في الشارع فحسب، بل في طريقة تفكير المجتمع ذاته. لم تعد المسألة مرتبطة فقط بمطالب اجتماعية مشروعة، بقدر ما أصبحت اختباراً حقيقياً لمدى نضج النقاش العمومي في عصر تهيمن عليه السرعة والانفعال والسطحية الرقمية.
لقد أظهرت هذه الاحتجاجات أن النقاش في الفضاء العام المغربي يعيش محنة مزدوجة: محنة في المضمون ومحنة في الوسيلة. فبدل أن يكون الفضاء الرقمي مجالاً لتبادل الأفكار وتحليل الظواهر بعمق، تحول إلى مسرح للانفعالات المتبادلة، حيث يعلو الصراخ على التفكير، وتنتصر الأحكام الجاهزة على البحث الهادئ عن الحقيقة.
المطالب المرتبطة بالصحة والتعليم والكرامة لا جدال في مشروعيتها، لكن طريقة تفاعل الفاعلين السياسيين والإعلاميين معها كشفت انزلاقاً خطيراً نحو تبسيط الواقع وتجزئة الحقيقة. فكل طرف حاول استثمار الغضب الجماعي لصالحه، في مشهد يعكس كيف أصبحت الخوارزميات الرقمية هي من تحدد إيقاع النقاش لا الوقائع ولا القيم. لقد تم تحويل الوعي الاحتجاجي إلى فوضى رقمية، تصنعها شاشات لا تفرّق بين الصدق والمبالغة، وبين المعلومة والإشاعة.
ومع ذلك، لا يمكن اختزال ما يجري في صور الشغب أو في عناوين الإثارة. فعمق الأزمة يتجلى في انكسار جسر الثقة بين الشباب ومؤسسات الدولة والوساطة الاجتماعية، من أحزاب ونقابات وجمعيات، لم تعد تمتلك القدرة أو اللغة للتفاعل مع جيل يتحدث بلغة الصورة والهاشتاغ أكثر من لغة الخطابات الرسمية.
الخطر الحقيقي اليوم ليس في الغضب، بل في انعدام البوصلة داخل النقاش العمومي. فقد صار كل اختلاف مناسبة للتخوين، وكل احتجاج تهمة جاهزة، وكل رأي مخالف يُستقبل بالهجوم لا بالحوار. إننا نعيش ما يمكن تسميته بـ“زمن الانفعال الجماعي”، حيث تُنتج وسائل التواصل جماهير رقمية تتحرك بالعاطفة أكثر مما تفكر بالعقل، كما تنبّه إلى ذلك غوستاف لوبون في “سيكولوجية الجماهير”.
جيل Z ليس خصماً ولا ظاهرة عابرة؛ إنه مرآة تعكس ما أهملته الأجيال السابقة من قيم التربية والتواصل والمواطنة النقدية. التعامل معه بالخوف أو بالعقاب هو هروب من مواجهة السؤال الحقيقي: لماذا فقد الشباب الثقة في المؤسسات؟
إن المطلوب اليوم ليس شيطنة الغضب، بل تحويله إلى طاقة إصلاح. ليس دفن النقاش العمومي تحت ركام الانفعالات، بل إعادة بنائه على أسس من المعرفة والاحترام والعقلانية. فالأمم لا تتقدم بالاتهامات المتبادلة، بل بجرأة النقد الذاتي.
وحده التفكير الهادئ، القائم على تحليل الأسباب لا على البحث عن أكباش فداء، قادر على إخراجنا من دائرة “التبرير اللحظي” إلى أفق الإصلاح العميق. لأن من يعلق “الحجام” كلما سقطت الصومعة، لا يسائل النظام بل يبرر العطب.
- باحث في الإعلام

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News