الثقافةالرأي

الماسيون: السكان القدماء لوادي ماسة بين الجغرافيا والتاريخ

  • الحسين بو الزيت * //

مقدمة:

إذا كان هيرودوت قد وصف مصر بأنها “هبة النيل” (هيرودوت، الكتاب الثاني)، فإن وادي ماسة يمكن اعتباره “هبة الجنوب المغربي”، إذ لعب دورًا مركزيًا في تشكيل تاريخ سوس، ماضيًا وحاضرًا. إن مقاربة تاريخ الوادي في ارتباطه بالمجتمع المحلي تمثل مدخلًا ضروريًا لفهم دينامية الاستقرار البشري في المنطقة، نظرًا لموقعها الاستراتيجي على الساحل الأطلسي، وأهميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلاً عن مساهمتها في التنوع البيئي والبيولوجي (مونتاني، 1930).

الإطار المجالي والمؤسسات العرفية

أبانت الدراسات الميدانية عن تعلق استثنائي للسكان بوادي ماسة، رغم هشاشة الوسط الطبيعي (أوعمو، 1998). فقد طوروا أنماط عيش متكيفة مع المجال: زراعة قائمة على تدبير دقيق للمياه، عمران متناسق مع المناخ، ونظام عرفي مؤسساتي تجلى في *إيكودار* (المخازن الجماعية) التي شكلت آلية أساسية لتأمين المؤونة وتنظيم المجال (مونتاني، 1930). وتبرز هذه المؤسسات كترجمة لتفاعل الإنسان الأمازيغي مع بيئته “الواديّة”، بما في ذلك الحوكمة المحلية وعلاقتها بالسلطة المركزية.

إشكالية الأصل: المحلي أم الخارجي؟

ظل أصل سكان ماسة موضوع جدل بين الباحثين: فريق يربطهم بأصول خارجية، وفريق آخر يدافع عن أطروحة الأصالة المحلية. تميل الدراسات الأركيولوجية الحديثة إلى تأكيد الانتماء المحلي، مستندة إلى مكتشفات مثل موقع جبل إيغود، الذي أظهر أقدم آثار للإنسان العاقل (حوالي 300 ألف سنة)، ومواقع أثرية أخرى بوادي بهت وظهر المودن والصخيرات (هنري، 2018). هذه النتائج تفند فكرة الأصل الشرقي، وتثبت استمرارية الاستيطان البشري في المغرب منذ عصور موغلة في القدم.

ويُجمع المؤرخون الأنثروبولوجيون على أن مسألة الأصل غالبًا ما تتجاوز بعدها العلمي لتأخذ طابعًا إيديولوجيًا (بيرك، 2000). ومع ذلك، فإن الوزن العلمي للمعطيات الأثرية يجعل فرضية “الأصالة المحلية” أكثر قوة ووجاهة.

ماسة في الكتابات الكلاسيكية

ذكرت منطقة سوس وماسة في مؤلفات اللاتين مثل بلين الكبير (القرن الأول الميلادي)، وبطليموس، وبروكوبيوس (القرن السادس الميلادي). وقد ارتبط ذكرها بقبائل كبرى كـ *الجيتول* و*الأوتولول* (Jacques-Meunié, 1951). ويطرح هذا الربط سؤال الانتماء: هل يمثل الماسيون امتدادًا لهؤلاء؟

لقد ساعد ليون الإفريقي (القرن 16م) على تعزيز هذه الفرضية عندما اعتبر أن ماسة مدينة بناها الأفارقة الأقدمون (ليون الإفريقي، “وصف إفريقيا”). غير أن غياب حفريات دقيقة يجعل مسألة تتبع مسار الجيتول نحو وادي ماسة معقدة. ومع ذلك، يظل التشابه بين اسم “الماسيين” وأسماء الجيتول مثيرًا للانتباه، ويستدعي البحث اللغوي المقارن.

البعد اللغوي والدلالي للتسمية

تتيح اللغة الأمازيغية مدخلًا إضافيًا لتفسير تسمية “ماسة”. فكلمة “أيت” تعني “أهل” أو “أولاد”، وتضاف إليها أسماء الأماكن أو الأجداد المؤسسين. ومن ثَمَّ، يمكن أن تكون “أيت ماس” قد تحولت عبر الزمن إلى “ماسة” أو “أيتوماس”، في توافق مع أنماط التسمية الأمازيغية الأخرى (أيت أودرار*، *أيت أوسى…).

كما أن مقارنة التسمية مع أماكن أخرى مثل “مستغانم” بالجزائر (التي تعني “وسط القصب”) يفتح فرضية بيئية، خصوصًا أن منطقة ماسة محاطة تاريخيًا بمستنقعات وقصب كثيف (ابن خلدون، الكتاب الخامس).

الاستمرارية التاريخية والتحولات

تدل الشواهد على أن الماسيين يمثلون إحدى أقدم اللبنات السكانية في المغرب الأقصى. فقد أسسوا تقاليد عرفية ومؤسسات اجتماعية صمدت أمام تقلبات الزمن، ولا تزال بعض ملامحها قائمة حتى اليوم. كما أن المنطقة استقبلت موجات سكانية لاحقة مثل صنهاجة، التي انصهرت مع السكان المحليين وشكلت تركيبة سوسية متجانسة.

إن استمرارية مؤسسات مثل إيكودار، وتمسك الماسيين بأعرافهم، يعكس ذاكرة جماعية ضاربة في القدم. وهو ما يجعلهم، على ضوء المعطيات الحالية، امتدادًا بعيدًا للجيتول الذين وصفهم بلين قبل ألفي سنة بقوتهم ونفوذهم.

خاتمة

بناءً على المعطيات التاريخية والأثرية واللغوية، يتضح أن سكان ماسة ينتمون إلى السلسلة الطويلة للاستيطان البشري في شمال إفريقيا. إن أطروحة الأصل الشرقي تبقى ضعيفة علميًا، فيما تعزز المكتشفات الحديثة أطروحة الأصالة المحلية. وهكذا، فإن الماسيين يشكلون نموذجًا لمجتمع محلي حافظ على توازنه مع بيئته، واحتفظ بذاكرة مؤسساته عبر قرون، مما يجعل دراستهم مدخلًا لفهم ديناميات التاريخ المغربي، بعيدًا عن التصنيفات الاختزالية لمفهوم “المغرب النافع” و”المغرب غير النافع”.

*الحسين بوالزيت. صحافي وباحث في التاريخ

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى