
الصحافة في زمن المؤثرين والتكنولوجيا: أي مستقبل للمهنة؟
في البدء :
تمر الصحافة المغربية والعالمية بمرحلة دقيقة وحاسمة. فبينما كان يُنظر إليها لعقود طويلة باعتبارها “السلطة الرابعة” القادرة على مراقبة السلطة وتنوير الرأي العام، وجدت نفسها اليوم أمام منافسين جدد: المؤثرون وصنّاع المحتوى على شبكات التواصل الاجتماعي. وفي الوقت ذاته، برزت شركات التكنولوجيا العملاقة كقوة تتحكم في تدفق الأخبار والإعلانات، ما جعل مستقبل الصحافة المهنية مهدداً أكثر من أي وقت مضى.
المؤثرون وصنّاع المحتوى: منافسة غير متكافئة
منصات مثل “يوتيوب” و”تيك توك” و”فيسبوك” خلقت جيلاً جديداً من صنّاع المحتوى، يعتمدون على البث المباشر والفيديوهات القصيرة لجذب ملايين المتابعين. هؤلاء المؤثرون لا يلتزمون غالباً بالمعايير المهنية التي تفرضها الصحافة: التحقق من المصادر، التوازن، حق الرد، والمساءلة. ومع ذلك، نجحوا في جذب جمهور واسع، خصوصاً من الشباب، الذين باتوا يفضلون المعلومة السريعة والمرئية على المقالات الطويلة.
هذا الواقع جعل الكثيرين يخلطون بين “الخبر الصحفي” و”المحتوى الترفيهي”، وهو ما يضع الصحافة في مواجهة تحدٍّ صعب للحفاظ على ثقة جمهورها.
شركات التكنولوجيا: سلطة جديدة فوق الإعلام
الخطر الأكبر لا يأتي فقط من المؤثرين، بل من شركات التكنولوجيا العملاقة مثل “ميتا” (فيسبوك وإنستغرام)، “غوغل”، و”تيك توك”. هذه الشركات لم تعد مجرد وسيط، بل أصبحت هي من يحدد – عبر خوارزمياتها – أي محتوى ينتشر وأي محتوى يُدفن في الهامش. كما أنها استحوذت على حصة ضخمة من سوق الإعلانات الرقمية، مما حرم المؤسسات الصحفية التقليدية من مواردها الأساسية.
في هذا السياق، تتراجع قدرة الصحافة الوطنية على ضبط أجندة النقاش العمومي، لصالح قوى عابرة للحدود لا تخضع لقوانين محلية ولا لرقابة ديمقراطية.
أزمة الثقة والاقتصاد
أصبحت الصحافة تواجه اليوم ثلاث أزمات متداخلة:
-
أزمة الثقة: الجمهور لم يعد يميز بسهولة بين الخبر المهني والمحتوى المضلل.
-
الأزمة الاقتصادية: تراجع مبيعات الصحف الورقية، وتحول المعلنين نحو المنصات الرقمية.
-
ضغط السرعة: الانشغال بمجاراة إيقاع المنصات أدى إلى التضحية بالتحقيقات المعمقة لصالح أخبار سطحية وسريعة.
هذه الأزمات تهدد استمرارية الكثير من المؤسسات الصحافية، خاصة المحلية منها، التي تجد نفسها بين مطرقة المنافسة وسندان الأزمة المالية.
الذكاء الاصطناعي: خطر أم فرصة؟
التكنولوجيا، رغم ما تحمله من تهديدات، توفر أيضاً إمكانيات غير مسبوقة لتطوير الصحافة:
-
إنتاج الأخبار الروتينية آلياً: مثل أخبار الطقس والنتائج الرياضية والاقتصادية، ما يتيح للصحفي التفرغ للتحقيقات.
-
التحقق الرقمي: أدوات الذكاء الاصطناعي قادرة على كشف الصور والفيديوهات المفبركة، وهو أمر حيوي لمواجهة الأخبار الكاذبة.
-
تحليل البيانات: يمكن للصحافة أن تستخدم الخوارزميات لفهم اتجاهات الرأي العام على الشبكات الاجتماعية.
-
الصحافة التفاعلية: إدماج تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز لتقديم محتوى جديد يجذب الجمهور بشكل أعمق.
إذاً، التحدي ليس في رفض التكنولوجيا أو الخوف منها، بل في كيفية توظيفها بشكل يخدم الحقيقة والمصلحة العامة.
نحو صحافة مهنية حديثة
المستقبل لا يكمن في منافسة المؤثرين بأسلوبهم، بل في بناء صحافة مهنية حديثة تستفيد من التكنولوجيا دون أن تفقد روحها النقدية. وهذا يمر عبر:
-
تعزيز قيم المهنة: المصداقية، التوازن، والتحقق من المعلومات.
-
الاستثمار في التحول الرقمي والوسائط المتعددة.
-
تنويع مصادر التمويل عبر الاشتراكات الرقمية والشراكات المجتمعية.
-
إطلاق برامج للتربية الإعلامية لمساعدة الجمهور على التمييز بين الصحافة والمحتوى الترفيهي.
الصحافة ليست في طريقها إلى الزوال كما يعتقد البعض، لكنها بالتأكيد أمام اختبار تاريخي. فإذا انغلقت على أساليبها القديمة، ستفقد جمهورها لصالح المؤثرين وخوارزميات المنصات. أما إذا استطاعت أن تدمج بين المهنية والتكنولوجيا، فإنها ستبقى قادرة على أداء دورها الحيوي كركيزة للديمقراطية ومصدر للمعلومة الموثوقة.
إن الرهان في النهاية هو على صحافة عصرية، مسؤولة، ومنفتحة على الذكاء الاصطناعي، قادرة على مواجهة التضليل وبناء ثقة جديدة مع المجتمع.

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News