
إبراهيم الكوني محاميا لــ “الإنسان الهجري” في كتابه الجديد ذاكرة العدم
- متابعة: عبد الله الفرياضي //
أصدرت المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، آخر إصدارات الفيلسوف والروائي إبراهيم الكوني، الموسوم بعنوان: ذاكرة العدم: الشهادة في حق الإنسان الهِجري.
وفي هذا الكتاب المثقل بوجع الكينونة، يواصل الكوني تشييد معمار مشروعه الفلسفي بروحٍ أقرب إلى وحي الأنبياء، مستندًا إلى بلاغة مترعة بالرمز وصفاء الرؤيا، ليضع الإنسان أمام مرآته الوجودية: مرآة “الإنسان الحضري”، ذاك الكائن الذي استولد أزمته الأنطولوجية من خطايا الاستقرار والتملّك، فحوّل الحضارة إلى نيرٍ ثقيل يقصم ظهر الكائن المعاصر.
ومن بين أنقاض هذا الخراب، يطلّ مفهوم “الإنسان الهجري” كسبيل خلاص، وكمعراج روحي يعيد إلى الإنسان توازنه المفقود وجوهره المنسي.
صحيفة الوجود
تنطق النصوص المقدسة، كما أساطير الأولين، بأن لكل إنسان صحيفة أعمال تُعرض عليه يوم الحساب. غير أن الكوني يدعونا، في كتابه الجديد، إلى قلب السؤال: ماذا لو تجلّت تلك الصحيفة لا باعتبارها شهادة فردية، بل باعتبارها سجلًّا كونيًا للنوع الإنساني بأسره؟
عندها يبدو ذاكرة العدم وكأنه “صحيفة للوجود”، تؤرّخ مسيرة الإنسان من براءة البدء إلى سقطة الحضارة. مسيرة لا تمضي على خط مستقيم صوب القيامة، بل تنغلق في حلقة مفرغة، يعيد فيها الإنسان إنتاج خطايا السلف: خطيئة آدم الأولى وجريمة قابيل.
سبيل الانعتاق
على امتداد 220 صفحة، يشيد الكوني خريطةً ثنائية للوجود، تنبسط من الصرخة الأولى إلى الزفرة الأخيرة، ليكشف عبر ثنائية الاستقرار/الترحال سرّ الأزمة الإنسانية ومفتاح خلاصها. فالخلاص – في رؤيته – لا يتحقق بالانغماس في أوهام الحضارة، ولا بالارتهان لغواية الاستقرار، بل بالتحرر من قيود التملّك، والارتحال وفق شريعة الهجرة بوصفها مقامًا روحيًا وكيانياً.
فالهجرة ليست حركة في المكان، بل وقفة أنطولوجية يتطهّر بها الإنسان من رجس المدن وخطايا العمران، ليعود إلى صفاء البداءة حيث الطبيعة معبد والعدم فردوس غائب. إن فعل الخلاص، عند الكوني، هو اغترابٌ واعٍ، ارتقاء إلى سدرة الحرية، وتجذّر في الفراغ، لا طلبًا للفناء، بل إشعاعًا بالمعنى ومقاومةً للوجود بضمير يقظ وفعل حر.
ترياق الأسطورة
عبر صفحات “ذاكرة العدم”، يمضي الكوني في فضح مساوئ الاستقرار، متتبعًا رحلة الإنسان من المجتمع الرعوي – الخاشع في محراب الطبيعة – إلى المجتمع الزراعي الذي دشّن بالاستقرار والتقنية قطيعته الفادحة مع أمه الأولى. فتحوّل الكائن عبدًا وطاغوتًا في آن، وتدثّر بأسمال الأيديولوجيا، متنكّرًا لسره اللاهوتي.
ليكون السبيل إلى النجاة، في نظر الكوني، هو استدعاء الذاكرة الهجرية الأولى من بطون الأساطير، لاستعادة الهوية البكر، وجعل الميثولوجيا عقيدة للروح. غير أنّ المسافة الفاصلة بين صفاء البدء وسقطة الحضارة، وما يكتنف الأساطير من عجمة وغموض، تقتضي وسيطًا يفتح الباب: هو اللغة.
وساطة اللغة
إذ كانت اللغة، كما يرى هايدغر، “المسكن الأصيل للكينونة”، وكانت المعاجم، كما وصفها نيتشه، مقابر لرماد الأمم وأشباح العصور، فإن الكوني يجعل من اللغة في ذاكرة العدم شرط الوجود ونافذة سره. فهي الباب الذي ينفتح على الكينونة، والستر الذي يحفظها.
ومن هنا سعى إلى استنطاق القواميس بمقاربة دياكرونية وأنثروبولوجية-لسانية، ليخلص إلى أن لغات العالم قاطبة ليست سوى طِرس للغة أولى، هي اللغة الأمازيغية، لغة البدء والتكوين واللاهوت أيضا، وهي اللغة التي بها وحدها تنحلّ شيفرة الكائن ويتكشف سره المكنون.
بشارة الإنسان الهجري
في هذا السفر الأسطوري، يصوّر الكوني الإنسان ككائن آثم، خان براءته حين استسلم لوهم الاستقرار وفتنة التملّك وسطوة السلطة. لكنه، في المقابل، يفتح أمامه درب الخلاص: الهجرة شريعةً، والأسطورة ترياقًا، واللغة وساطةً بين الكينونة وسرّها.
إنها بشارة “الإنسان الهجري”، الذي يهب نفسه لطقس العودة إلى البدء، إلى ذاكرة النسيان، حيث الهجرة مقام نجاة، والعدم ذاكرة مكنونة، والأسطورة دين الروح في رحلة التكفير عن خطيئة الحضارة.

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News