المغرب اليوم

حمراوي :  “السلطة الرابعة تحتضر… والرقمي يرقص على جثتها” (حوار)..

حوارات بلا أقنعة، حوار مع الزميل بوشعيب حمراوي، الكاتب والإعلامي،  أجرته معه جريدة الأحداث المغربية ، نعيد نشره في الموقع أكادير اليوم بالاتفاق معه، تعميما لفائدته ذات الأهمية الكبيرة، تحت نفس العنوان “السلطة الرابعة تحتضر… والرقمي يرقص على جثتها”.

التقديم:

في هذا الحوار النادر، نضع بوشعيب الحمراوي أمام مرآة بلا تزيين ولا أقنعة، ليكشف لنا ما لم يجرؤ كثيرون على قوله عن واقع الصحافة المغربية بعد ثلاثة عقود من التجربة…

منابر تبحث عن الحقيقة ولو خسرت الإعلانات، وأخرى تحوّلت إلى “دكاكين إعلامية” تبيع المعلومة بحساب الممول… من الصحافة الورقية التي كانت مدرسة، إلى الرقمية التي صارت “تسابق على جثة الحقيقة”… من مبادراته الدبلوماسية مع التلاميذ والطلبة، إلى إيمانه بكتابة تبقى بعد أن يرحل الجيل الحالي…

هنا، يهاجم الحمراوي الجميع بلا استثناء: السلطة، الجمهور، وحتى الإعلاميين أنفسهم… ثم يختتم بدعوة إلى “لمة” وطنية قبل أن يبتلعنا بحر التفاهة والانقسام.

حوار… بلا أقنعة، وبلا خطوط حمراء.

السؤال الاول : بعد ثلاثة عقود في الصحافة… هل تعتقد أن أغلب المنابر المغربية اليوم تشتغل لصالح الحقيقة أم لصالح “جيوب” من يمولها؟

الجواب :

بعد ثلاثة عقود في الصحافة، أستطيع القول أن الصورة اليوم مركبة ومعقدة، وليست أحادية اللون. هناك فئة من المنابر المغربية ما زالت تحاول — رغم كل الصعوبات — أن تشتغل لصالح الحقيقة، وتبحث عن المعلومة الدقيقة، وتدافع عن استقلالية خطها التحريري، حتى ولو كلفها ذلك فقدان الإعلانات أو الدخول في صدامات مع مراكز النفوذ. لكن هذه الفئة أصبحت أقلية، وغالبًا تعاني من ضعف الموارد وصعوبة الاستمرار.

في المقابل، هناك شريحة أوسع من المنابر التي صارت أقرب إلى “مقاولات إعلامية تجارية” أكثر منها مؤسسات صحفية بالمعنى المهني، تشتغل بمنطق السوق، حيث تُقدَّم الأولوية لرضى الممولين والمعلنين أو الجهات التي تملك النفوذ، حتى لو كان الثمن هو التنازل عن جزء من المصداقية أو تحوير زاوية التناول. في هذا السياق، تصبح “الحقيقة” سلعة تُروَّج بقدر ما تسمح به المصالح المالية أو السياسية.

المشهد الصحفي المغربي اليوم يعيش بين جزر صغيرة من المهنية النقية، وبحر واسع تتحكم فيه تيارات المال والنفوذ، والمفارقة أن الجمهور أصبح أكثر وعيًا بهذه الديناميات، وأصبح يميز بين منبر يشتغل لصالح المعلومة ومنبر يشتغل لصالح “الجيوب”.

طبعا فالمسؤولية الكاملة موضوعة على عاتق المجلس الوطني للصحافة . فرحنا عندما خرج قطاع الإعلام والنشر من جبة الحكومة والسياسي. وسنفرح أكثر عندما يتم التأثيث لمجلس قادر على تنقية وتطوير. الوسط الإعلامي وحماية رواده .

وخدمة ما يلزم لقطاع الإعلام والنشر من حيث المهنية الميدانية. والعمل على تجويد العطاء الاعلامي وتنقيته من الدخلاء وحماية .

يجب تنقية وتطهير قطاع الصحافة والنشر وخصوصا في الصحافة الرقمية  وكذا مواقع التواصل الاجتماعية  بفرض إحداث فروع لها داخل المغرب .

يعتبر السبيل الوحيد الى الرقي بالسلطة الرابعة وضمان حسن الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعية ومحاربة الاشاعة والميوعة والتفاهة والسفالة. للأسف معظم المنابر الإعلامية الرقمية تتغذى من تلك المواقع وتسوق عن طريقها… مما يجعل سلطة مواقع التواصل الاجتماعية أكثر تأثيرا وضغطا على كل السلط الخمسة. واقصد السلط (التنفيذية، التشريعية، القضائية، الإعلام والصحافة , المجتمع المدني).

1.السياق العام: من الصحافة الورقية إلى الإعلام الممول:

على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة، تغيّر المشهد الإعلامي المغربي بشكل جذري:

الصحافة الورقية المستقلة التي ظهرت في التسعينات ومطلع الألفية كانت تسعى للعب دور سلطة رابعة، وحققت كشفًا لملفات كبيرة، لكنها اصطدمت سريعًا بجدار الإعلانات وضغوط الدولة.

الإعلام الإلكتروني فتح المجال للحرية أكثر، لكنه جاء في بيئة اقتصادية هشّة، ما جعله عرضة لهيمنة الإعلانات والتمويل الخارجي والداخلي المشروط.

القنوات والإذاعات الخاصة بقيت مرتبطة بشكل كبير بهوامش رسمية محددة، لأن تراخيصها ووجودها مرتبطان برضا السلطات والمعلنين الكبار

2.التمويل.. بوابة السيطرة على الخط التحريري:

في المغرب، التمويل ليس مجرد دعم، بل هو أداة تحكم. هناك ثلاث قنوات رئيسية تتحكم في توجهات عدد كبير من المنابر:

1.الإعلانات التجارية الكبرى: وهي تتركز في يد شركات وبنوك مرتبطة بشبكات مصالح سياسية واقتصادية.

2.الإشهار العمومي: الذي تديره مؤسسات الدولة أو الجماعات، ويوزَّع غالبًا وفق معايير غير شفافة، ما يجعله أداة للثواب والعقاب.

3.الدعم المباشر أو غير المباشر: سواء عبر شراكات، عقود إنتاج، أو تغطيات “مدفوعة الثمن” بشكل غير معلن.

نتيجة ذلك: المنبر الذي يعتمد ماليًا على طرف معيّن يجد نفسه مجبرًا على تجنّب أي خط تحريري قد يضر بمصالح هذا الطرف، وهو ما يؤدي إلى “رقابة ذاتية” أقوى من أي رقابة رسمية.

3.الحقيقة كسلعة مشروطة:

في ظل هذه البنية التمويلية:

تتحول الأخبار إلى منتج قابل للتكييف حسب رغبة الزبون (الممول أو المعلن).

تُنشر الحقيقة عندما لا تتعارض مع المصالح، وتُخفى أو تُزيَّن أو تُشوَّه حين تمسّها.

ملفات حساسة (فساد مالي، تضارب مصالح، سوء تسيير) قد تُفتح ضد خصوم الممول وتُغلق أمام أصدقائه.

4.الاستثناءات.. جيوب المقاومة المهنية:

رغم هذا الواقع، لا تزال هناك منابر وصحفيون يشتغلون بمنطق الصحافة كرسالة، يحاولون التحقق من كل معلومة، ويضعون المصداقية قبل الربح، حتى وإن دفعوا ثمنًا غاليًا (فقدان عقود إعلانات، متابعات قضائية، تضييق في الوصول إلى المعلومة، حملات تشويه على وسائل التواصل…).

لكن هذه الأصوات، وإن كانت مؤثرة، تظل قليلة العدد، وغالبًا ما تعتمد على دعم القراء أو مشاريع تمويل جماعي للبقاء.

5.انعكاسات هذا الوضع على المشهد الإعلامي:

– فقدان الثقة: استطلاعات الرأي تُظهر تراجع ثقة الجمهور في الإعلام المحلي.

– صعود الإعلام البديل: الجمهور يلجأ أكثر لوسائل التواصل والمدونات واليوتيوبرز للحصول على معلومات، رغم مخاطر الأخبار الزائفة.

– إضعاف الدور الرقابي: حين تتخلى وسائل الإعلام عن التحقيق في قضايا حساسة، تفقد صفة “السلطة الرابعة” وتتحول لأداة ترويج.

المشهد الصحفي المغربي اليوم يعيش معادلة غير متوازنة:

حيث أغلبية من المنابر تعمل داخل دائرة نفوذ التمويل والمصالح، ما يجعل الحقيقة انتقائية أو مؤطرة. وأقلية تشتغل باستقلالية مهنية حقيقية، لكنها تعاني اقتصاديًا وتتعرض لضغوط متواصلة.

إذن، السؤال لم يعد: هل الإعلام يشتغل لصالح الحقيقة أم لصالح الجيوب؟

بل أصبح: كم بقي من مساحات الحقيقة في بحر المصالح؟

السؤال الثاني :  الصحافة الورقية تلفظ أنفاسها، والمنصات الرقمية تلتهم المشهد… بصراحة، هل نحن أمام تطور طبيعي للإعلام أم أمام انتحار جماعي للمهنة؟

الجواب :

1. ما بين التطور الطبيعي والانتحار البطيء

الانتقال من الورقي إلى الرقمي كان حتميًا على المستوى التكنولوجي وسلوك الجمهور.

القراء اليوم يريدون الخبر فورًا، على هواتفهم، مجانًا، وبصيغة مختصرة أو مرئية.

الإعلانات هاجرت من صفحات الجرائد إلى المنصات الرقمية، حيث الأرقام أكبر والجمهور أوسع.

إذن من حيث المنطق التطوري، ما يجري هو جزء من المسار العالمي، وليس خاصًا بالمغرب. لكن… هنا تبدأ المأساة المهنية.

2.كيف تحوّل التطور إلى انتحار؟

غياب نموذج اقتصادي مستدام: أغلب المواقع الإخبارية المغربية تعيش على فتات الإعلانات أو دعم مشروط، ما يدفعها إلى السباق نحو النقرات بدل الجودة.

التفريط في المعايير: البحث عن “الترند” بأي ثمن، حتى ولو كان عبر الإشاعات، الفضائح، أو محتوى سطحي بلا قيمة إخبارية.

انهيار غرف الأخبار: الورقي كان يفرض هياكل تحريرية منظمة (رئيس تحرير، محررون، مصححون لغويون). أما الرقمي فقد شجّع على الفردية والفوضى.

التسابق على السبق دون التحقق: النشر قبل التأكد من صحة المعلومة أصبح عادة، والمبرر دائمًا “نصحح لاحقًا”.

3.النتيجة: جمهور أكثر… لكن ثقة أقل

المنصات الرقمية جلبت أضعاف الجمهور الذي كان يقرأ الورقي، لكنها فقدت عمق التحليل والتحقيق.

الثقة في الأخبار الرقمية ضعفت، والجمهور نفسه أصبح يشك في كل ما يقرأه، ويميل إلى الأخبار القادمة من الخارج أو من “الصحافة البديلة”.

4.هل من طريق إنقاذ؟

– بناء نموذج اقتصادي مستقل عن إملاءات الممولين، مثل الاشتراكات أو التمويل الجماعي.

– استثمار حقيقي في التدريب والتحرير الرقمي بدل الاكتفاء بالنسخ واللصق.

– الجمع بين سرعة الرقمي ومهنية الورقي في التحقق، الكتابة، والتحليل.

نحن أمام تطور تكنولوجي طبيعي، لكنه في غياب الحكامة المهنية والاقتصادية تحول إلى انتحار جماعي للمهنة.

المستقبل لن يرحم منبرًا فقد بوصلته، حتى لو كان رقميًا ويحقق ملايين الزيارات، لأن الجمهور يتذكر في النهاية من أعطاه الحقيقة لا من باعه الوهم.

5. الورقي يحتضر… والرقمي يرقص على الجثة!

الصحافة الورقية في المغرب تلفظ أنفاسها الأخيرة، فيما المنصات الرقمية تلتهم المشهد بشهية لا تعرف الشبع. ظاهريًا، يبدو الأمر وكأنه تطور طبيعي فرضته التكنولوجيا وسلوك الجمهور، لكن الحقيقة أن ما نعيشه أقرب إلى انتحار جماعي للمهنة.

في زمن الورقي، كانت غرفة الأخبار مدرسة، والتحرير فن، والتحقيق استثمار في الوقت والجهد. اليوم، في زمن الرقمي، صار “الترند” هو المحرر، و”عدد النقرات” هو رئيس التحرير، و”الممول” هو المالك الفعلي للخط التحريري.

مواقع تتسابق على السبق ولو على جثة الحقيقة، تنشر قبل أن تتحقق، وتصحح بعد أن تنتشر الكارثة. محتوى سطحي، عناوين مثيرة، وصور مسروقة، كل ذلك في سباق محموم نحو إرضاء الخوارزميات وجيوب المعلنين.

النتيجة؟ جمهور أكبر… وثقة أقل. والأخطر أن القارئ صار يدرك أن كثيرًا من هذه المنصات لا تبحث عن الحقيقة، بل عن “النقرة الذهبية” التي تدفع الفاتورة.

إنقاذ المهنة لن يأتي من التباكي على أيام الورق، بل من الجمع بين سرعة الرقمي وانضباط الورقي، ومن بناء نموذج اقتصادي يحمي التحرير من الابتزاز المالي. غير ذلك، سنستمر في مشاهدة جنازة مهنة كانت تُسمى يومًا “السلطة الرابعة”، فيما منابرها تبيع شهادة وفاتها بالمزاد العلني.

السلطة الرابعة”… ماتت وتركَت الوصية على فيسبوك!

في زمن الورق، كانت الحقيقة تُصاغ بالحبر والعرق. كان المحرر يطارد المعلومة كما يطارد الصياد غزال البرية. اليوم، في زمن “الكليك” و”الترند”، المعلومة لا تطارد، بل تُختلق على عجل، ويُضاف لها قليل من البهارات لتناسب ذوق المعلن والخوارزمية.

الخبر اليوم لا يُقاس بمدى دقته، بل بعدد النقرات التي يجلبها. العنوان ليس مرآة للحدث، بل فخ يصطاد القارئ. والصورة ليست توثيقًا، بل “أكسسوارات” لجذب المرور.

وإذا سألت بعض المواقع عن التحقق من الأخبار، سيجيبك المحرر: “الله يعاونك، واش بقا اللي كيتحقق؟ راه القرايةبزاف… المهم نسابقو الوقت، نصححو من بعد!”.

باختصار… صارت الصحافة مثل البائع المتجول: يمد لك سلعة مزخرفة، تعرف لاحقًا أنها مقلدة. لكن الفرق أن السلعة المزيفة قد تفسد يومك، أما الخبر المزيف فقد يفسد وعيك.

الحل؟ أن تعود المهنة إلى رشدها، وتفهم أن القارئ قد ينسى من أعطاه سبقًا، لكنه لا ينسى من خانه مرة. وإلا… فلتستعد لدفن “السلطة الرابعة” نهائيًا، ونقرأ النعي على الحائط الأزرق بدل الصفحة الأولى.

السؤال الثالث : مبادرة الدبلوماسية التلاميذية والطلابية التي أسستها… هل تضمن أن تبقى مشروعًا حيًا يحمل وعيًا حقيقيًا، أم تخشى أن تُختزل مع الوقت في صور تذكارية وخطابات بروتوكولية؟

الجواب:

مبادرة الدبلوماسية التلاميذية والطلابية التي أطلقتها لم تكن يومًا مشروعًا مناسباتيًا أو نشاطًا للتزيين البروتوكولي. هي ثمرة رؤية واضحة وشراكات مؤسسية، على رأسها اتفاقية التعاون بين المركز الدولي البديل للصحافة والإعلام الذي اترأسه وأكاديمية التربية والتكوين بجهة الدار البيضاء سطات، والتي مكنت من إحداث أندية لسفراء الوحدة الترابية داخل جميع الثانويات، وتعيين سفراء وسفيرات إقليميين في كل عمالة وإقليم بالجهة عبر مباريات تعتمد على المحتوى التاريخي، جودة الترافع، فن الخطابة، وإتقان اللغات.

ضمان استمرارية هذا المشروع الحي قائم على ثلاثة ركائز:

أولا : ترسيخ الوعي داخل المؤسسات بدل الاكتفاء بالأنشطة الظرفية، عبر برامج تكوين وتأطير مستمرة.

ثانيا : منح الشباب أدوات حقيقية للترافع، كي لا يبقى الخطاب حبيس الشعارات، بل يتحول إلى قدرة عملية على الإقناع والدفاع عن الهوية المغربية والوحدة الترابية في أي محفل.

ثالثا : ربط الجسور مع الجامعات والمجتمع المدني، لضمان امتداد المسار التكويني من الثانوي إلى الحياة الجامعية والمهنية.

أدرك تمامًا أن أي مشروع من هذا النوع مهدد بأن يُختزل في الصور والخطابات إذا لم تُواكبه روح العمل الميداني والتجديد المستمر. لكن إيماني العميق بقدرات الجيل الجديد، وبالدعم المؤسسي والشركاء المخلصين، يجعلني أراهن على أن هذه المبادرة ستظل مساحة فعل ونضال ووعي، لا مجرد ألبوم صور في أرشيف المؤسسات.

السؤال الرابع : كتبت في السياسة، التربية، البيئة، الرياضة، الزجل… أليس في هذا التنوع مخاطرة بأن يراك البعض “كاتبًا لكل المواضيع” لا “مرجعًا في موضوع واحد”؟ أم أنك تراهن على الحضور في كل ساحة مهما كان الثمن؟

الجواب:

تنوع كتاباتي ليس وليد صدفة أو بحثًا عن الانتقال بين المواضيع بلا بوصلة، بل هو نتيجة طبيعية لمساري كصحفي مهني على مدى ثلاثة عقود، كتبت خلالها في كل المجالات وبمختلف الأجناس الصحفية.

بدأت قاصا وشاعرا وزجالا في طفولتي وقبل حتى بلوغ مرحلة الشباب. وكنت بارعا في الرياضيات . وتخرجت أستاذا لمادة الرياضيات بالتعليم الثانوي التأهيلي درست لمدة 31 سنة قبل أن استفيد من التقاعد النسبي . وعملت بالموازاة في قطاع الصحافة في معظم الجرائد الوطنية .وكتبت بكل الاجناس الصحفية وفي كل المجالات.

طبيعة العمل الصحفي تفرض على القلم أن يكون حاضرًا في السياسة، التربية، المجتمع، البيئة، الرياضة، والثقافة، وأن ينتقل بسلاسة من التحقيق الميداني إلى الروبورتاج، ومن المقال التحليلي إلى العمود الصحفي

سبق أن كنت مُشرفًا ومُكلفا لعدة صفحات وملاحق اجتماعية وتربوية في جرائد رائدة، منها جريدة الأحداث المغربية التي كُلفت فيها بإدارة ملحقها التربوي، وكنت أعدّ ثلاثة صفحات أسبوعيًا كل يوم خميس، إلى جانب إنجاز تحقيقات وريبورطاجات معمقة. كما كتبت أعمدة ثابتة مثل “المثقف السياسي” في الملحق الثقافي، و”ثغرات تعليمية” في الملحق التربوي، وشاركت مع زملاء في العمود الصحفي “على مسؤوليتي”.

هذا التنوع لم يكن تشتتًا، بل مدرسة صقلت مهاراتي ومنحتني قدرة على معالجة القضايا من زوايا متعددة، وهو ما انعكس على مؤلفاتي التي تغطي السياسة، التربية، البيئة، الرياضة، والزجل والترافع والدفاع عن الوحدة الترابية والهوية المغربية. أنا لا أرى نفسي “كاتبًا لكل المواضيع” بقدر ما أرى نفسي صحفيًا وكاتبًا وأستاذا (حامل رسائل)، ملتزمًا بتغطية كل ما يخدم وطني ويعزز الوعي بقضاياه الكبرى.

أنا لم أكتب في كل هذه المجالات لمجرد التنقل بين المواضيع أو حب التنويع، بل انطلقت دائمًا من هدف واحد وواضح: كيف أبعث الرسائل التحسيسية، التحذيرية، التوعوية والتربوية للقراء المغاربة بكل الطرق المتاحة.

طوال ثلاثة عقود من العمل الصحفي، كتبت في كل الأجناس الصحفية، وعملت في المنابر الورقية والرقمية، كما كنت حاضرًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وأصدرت كتبًا ومؤلفات ودواوين زجلية، وشاركت في ندوات علمية وفكرية، وظهرت على قنوات تلفزيونية وطنية ودولية، فقط لأجل إيصال هذه الرسائل بأوسع مدى ممكن.

إذن، تنوّع مجالاتي ليس خروجًا عن التخصص، بل هو تعدد في وسائل الوصول إلى نفس الغاية: خدمة وطني، والدفاع عن هويته ووحدته الترابية، وبناء وعي مجتمعي يواجه التحديات الفكرية والثقافية.

السؤال الخامس : في زمن الترندات السريعة والسطحية الفاقعة، ما الذي يدفعك للاستمرار في كتابة مقالات وكتب قد لا يقرأها الجيل الذي اعتاد تلقي المعرفة في فيديوهات لا تتجاوز الدقيقة؟

الجواب:

أدرك تمامًا أننا نعيش زمن الترندات السريعة والمحتوى الخاطف، حيث يختصر كثيرون المعرفة في فيديوهات لا تتجاوز الدقيقة، لكنني أؤمن أن هناك فرقًا كبيرًا بين “الاستهلاك اللحظي” و”البناء العميق للوعي”. المقالة أو الكتاب ليست مجرد وسيلة لنقل المعلومة، بل هي مساحة للتأمل والتوثيق والتأثير المستمر.

اعتقد أن الناس يفضلون قراءة كتب المؤلفين بعد عقود من رحيلهم، وهذا بالنسبة لي ليس عيبًا، بل دليل على أن الكلمة الصادقة والرصينة لا تموت بانتهاء ظرفيتها. ما أكتبه اليوم قد لا يقرأه بعض أبناء هذا الجيل فورًا، لكنه سيظل صفحة خالدة يمكن الرجوع إليها أو حتى اكتشافها صدفة، فيوقظ عقلًا ويثير سؤالًا ويصنع أثرًا.

ثم إننا كمغاربة لا نملك مفاتيح العوالم الرقمية التي نخوض فيها يوميًا، ولا يمكن أن نؤمن ذاكرتنا وإبداعاتنا وارشيفنا داخلها، فالمحتوى هناك هش، معرض للحذف أو الضياع أو التلاعب. أما الكتاب، فله وضع خاص، وطقوس خاصة، وشغف خاص، وهو أوثق وسيلة لحفظ المعرفة وضمان بقائها عبر الأجيال.

والمفروض من المبدع ألا ينساق وراء ما تعيشه البشرية اليوم من غموض وتيهان، بل أن يساهم في التربية والتكوين وصناعة الوعي، حتى تبقى الثقافة والمعرفة أداة إنقاذ، لا مجرد موجة تركبها الخوارزميات.

هناك دول راقية في التربية والتعليم قررت العودة للتعليم الورقي ( السويد نموذجا، فيلندا..). وهناك دول رائدة في المجال الرقمي قررت العودة لاعتماد الورق من اجل التوثيق والارشفة خوفا من خطر الاعتماد على الرقمنة فقط وخصوصا بعد ظهور الذكاء الاصطناعي . بل ان رؤساء دول عظمى حذرت من ذلك. ونذكر جيدا التحذير الذي أعلن عنه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق.

لهذا أستمر في الكتابة، ليس لأنافس الترند، بل لأترك أثرًا يتجاوز أعمار المنصات، ويخاطب من سيأتي بعدنا، بالعمق والصدق الذي لا يمنحه المحتوى الخاطف.  و خوفا من ضياع أرشيفي و رصيدي المعرفي.

السؤال السادس : لو كان عليك أن تكتب مقال حياتك الأخير… هل ستهاجم فيه السلطة، أم الجمهور، أم الإعلاميين أنفسهم؟ ولماذا؟

الجواب:

لو كان علي أن أكتب مقال حياتي الأخير، فلن أختار مهاجمة طرف واحد فقط، لأن الفساد والتقصير ليس حكرًا على السلطة أو السياسة أو الإعلام أو حتى المجتمع المدني، بل هو منظومة متشابكة من المسؤوليات الضائعة.، والكل ضليع فيها.

لكنني لن أكتب ذلك المقال بروح التشخيص فقط، فقد قضيت سنوات طويلة وأنا أفضح وأحلل وأكشف خيوط الفساد ورموزه الذين نخروا المؤسسات وعرقلوا التنمية. في “المقال الأخير” ستكون لهجة الهجوم أقل، ولغة الرسالة الإنسانية أعمق. سأوجّه كلامي مباشرة إلى المواطن، مجردًا من كل الألقاب والانتماءات والجلابيب والغطاءات، لأقول له: أنت لست مجرد متفرج أو ضحية، أنت شريك في الحل كما قد تكون شريكًا في المشكلة. بل أنت مصدر كل ما يجري ويدور.

ذلك المقال سيكون خاتمة رسائلي المتعددة في التعليم والتربية والسياسة والإعلام… رسالة تضع المرآة أمام الجميع، وتذكّر أن التغيير يبدأ من الفرد قبل أن يطال المؤسسات، وأن الوطن لن ينهض ما لم ننهض نحن أولًا.

هي دعوة إلى اللمة من أجل وطن في القمة

تعلمنا كيف نصنع الأزمات ونغذي البؤس ونزرع اليأس والإحباط هناك وهناك. ونسينا أن نوفر جزئا من جهدنا وأراضينا لبناء الكرامة وتشييد السعادة وزرع المحبة…

تعلمنا أن نقبل بكره العين قبل العقل وقبل القلب. وأن نسترق السمع في أمور لا تعنينا و نغوص سلبا في مشاكل غيرنا لنزيد من معضلاتها…

تعلمنا أن نحضن الغريب قبل القريب. وأن نتركه بلا حسيب ولا رقيب. تلك قيمنا تصيب وتخيب. لكن في ظل تناسل الخونة والمتربصين بالوطن.. وجب التدقيق والبحث والتنقيب…

نسينا ونحن نزداد غلا وحقدا اتجاه بعضنا البعض، أن نوفر من غلنا وحقدنا قسطا ضئيلا لمواجهة أعداءنا ونمنح لبعضنا الوقت والمجال من أجل التسامح والتلاحم والتفاهم …

نسينا أن نجعل من سمومنا أسلحة فتاكة تقوينا وتحمينا وترهب خصومنا. بدل من أن نوظفها للتخلص من بعضنا البعض وإضعافنا وتشتتنا…

نسينا أن لمة الشعب هي الضمان وصمام الأمان لكل مشاريعنا…وأنه علينا إعادة تمتينها وشحن أنفسنا، لنوقف زحف الفساد والاستبداد. لنغير ما بأنفسنا. لأنه السبيل الوحيد إلى التغيير نحو الأفضل…

نسينا أن رضا الله لا يوجد فقط بالمساجد… لكنه هناك في الأحياء الهامشية والقرى النائية. هناك حيث البعض يئنون من قساوة الحياة وظلم البشر..أبواب مفتوحة ليل نهار تنتظر من يقتحمها ليغير حياة من بداخلها…

نسينا أن الحياة وإن تجاوزت القرن لا تغدوا أن تكون أحلاما وكوابيس في لحظة غفوة أو غفلة..وأن بين الحقيقة والأحلام ستارة داخل العين تحكمها ذرة في الدماغ.. ترمي بهياكلنا وأجسادنا هنا وهناك…

تلكم أخطاءنا التافهة التي لا يمكن تصنيفها ضمن خانة الكبائر… أخطاء من السهل تداركها وتصحيح مسارنا وتحصين وطننا…

لم يكن يوما العقل مرشدنا وراعينا في كل خطواتنا. ولم نعلم بعد كيف نتقبل قدر السماء المحتوم كان ممطرا أو مجرد سحاب بلا غيوم.

هي دعوة إلى اللمة من أجل حياة راقية تحمل شعار كلنا مغاربة وكلنا عرب وكلنا مسلمين… واختم بهاذين البيتين الشعريين اللذين كتبتهما في شبابي:

سيمة العقل الشرف…. إن غاب عنه انحرف

ذبل الحق وانجرف …. وعاش الباطل في ترف

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى