الثقافةالرأي

الاستشراق المتخيل بين الحقيقة والوهم : نحو استشراق بصري مضاد عند “الحسين بوميلا”..

  • بقلم : محمد العماري//

منذ صدور كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد سنة 1978، تحوّل مفهوم الاستشراق إلى أداة نقدية كاشفة، مكّنت من تفكيك الصور النمطية التي بناها الغرب عن الشرق والمجتمعات المغاربية.

لم يكن الاستشراق مجرّد مجال معرفي، بل جهازاً ثقافياً متكاملاً أنتج خطاباً أدبياً وتشكيلياً وفنياً هدفه تكريس هيمنة رمزية توازي الهيمنة السياسية والعسكرية.

فمن خلال لوحات الرسامين المستشرقين برز الشرق فضاءً للمتعة والغرابة: نساء عاريات، حريم مغلق، مشاهد خمول وكسل، وأسواق مليئة بالشهوة والغرائز.

هذه الصور لم تكن انعكاساً لواقع موضوعي، بل بناءً خياليّاً – كما وصفت ليندا نخلين في مقالها الشرق المتخيَّل – جعل من الشرق موضوعاً للرغبة أكثر مما هو شريكاً في الحضارة الإنسانية.

في مواجهة هذا الإرث البصري الاستعماري، تبرز تجربة الفنان المغربي الحسين بوميلا باعتبارها مشروعاً نقدياً مضاداً؛ فهي لا تكتفي بإنجاز أعمال فوتوغرافية تشكيلية، بل تقدّم محاولة لإعادة كتابة الذاكرة الجمعية بصرياً.

يقوم بوميلا بتهيئة فضاءات وديكورات يستلهمها من تاريخ المغرب الاجتماعي والثقافي، ويصوّر فيها شخصيات مغربية عادية ترتدي أزياء تقليدية أو تحاكي أوضاع الحياة اليومية. بعد التصوير، يعيد الاشتغال على الصور رقمياً، لكن ليس عبر تقنيات تحويل آلية، بل من خلال لمساته اليدوية كفنان تشكيلي يزاوج بين الكاميرا والفرشاة. هذه التقنية تجعل من الصورة الفوتوغرافية لوحةً تحمل في طياتها عمقاً جمالياً ورمزياً.

إن جوهر مشروع بوميلا يكمن في إعادة الاعتبار للذاكرة البصرية للأجداد. فبينما ركّز المستشرقون على الجسد المجرّد والحريم المغلق واللذة العابرة، يسلّط هو الضوء على مشاهد الكرامة والعمل والتضامن. هنا يتحوّل الماضي إلى فضاء حيّ نابض، لا إلى مادة فولكلورية للتسويق الغربي.

وفي هذا المعنى، يُمكِن قراءة أعماله ضمن ما يسميه بيير بورديو بـ”رأس المال الرمزي”: إذ يمنح بوميلا صوراً بديلة تستثمر في الهوية والذاكرة، وتعيد تشكيل الحقل الفني من الداخل.

لا تقتصر أهمية هذه التجربة على بعدها الجمالي، بل تنفتح على أفق سوسيولوجي وفلسفي أوسع. ففي ضوء أطروحات فوكو حول العلاقة بين المعرفة والسلطة، يمكن اعتبار صور بوميلا مقاومةً بصريةً للخطاب الكولونيالي. كما أنها تعبّر عن “المخيال الاجتماعي” بالمعنى الذي تحدث عنه كورنيليوس كاستورياديس: أي ذلك المجال الذي تُصاغ فيه الرموز والتمثلات الجماعية التي تمنح للمجتمع هويته ومعناه. فكل صورة عند بوميلا هي أسطورة بصرية جديدة، تنقض الأساطير الاستشراقية وتبني بديلاً يقوم على الحقيقة الرمزية للذاكرة الجماعية.

بهذا المعنى، يشكّل عمل الحسين بوميلا ضدّ استشراق بصري، لا يتوقف عند النقد، بل يذهب أبعد ليؤسّس أيقونات جديدة. إنّه يفضح الزيف الكامن في التمثيلات القديمة، وفي الوقت ذاته يقدّم بديلاً بصرياً يعيد للمغاربة صورهم الخاصة، بألوانهم، وملامحهم، وأزيائهم، وحركاتهم اليومية. هنا يصبح الفن وثيقة وذاكرة ومقاومة، كما يصبح أداة لبناء هوية جماعية متصالحة مع ذاتها، بعيدة عن تحريف الآخر.

إنّ مشروع الحسين بوميلا لا يُقارب الفن باعتباره ترفاً جمالياً، بل باعتباره مجالاً لإعادة بناء الذاكرة الجماعية ومساءلة التمثلات التي علّقها الآخر على صورتنا. فهو يكشف أن الصورة ليست مجرد سطح عاكس، بل هي فضاء للتفاوض الرمزي بين الماضي والحاضر، بين الذات ونظرة الآخر.

ومن خلال أعماله، يتحوّل الاستشراق من خطاب مهيمن إلى موضوع نقد ومساءلة، في حين يغدو “الضدّ استشراق” مساراً لإبداع أيقونات جديدة تُعيد الاعتبار للكرامة والهوية. بذلك يثبت بوميلا أن الفن قادر على إنتاج معرفة بديلة، وأن الصورة، حين تنبثق من الداخل، تصبح أداة مقاومة بقدر ما هي أداة جمال.

يُقام معرض الفنان الحسين بوميلا بعنوان «الاستشراق المتخيَّل: بين الحقيقة والوهم» بفضاء قاعة محمد الفاسي، 1 زنقة غاندي، وذلك خلال الفترة الممتدة من 3إلى 17 شتنبر.

وسيكون حفل الافتتاح (الڤيرناساج) يوم 6 شتنبر على الساعة السابعة مساءً. هذا المعرض يتيح للزوار فرصة استثنائية لاكتشاف تجربة فنية تسعى إلى تفكيك الصور النمطية الاستشراقية وإعادة بناء الذاكرة البصرية المغربية عبر المزج المبدع بين التصوير الفوتوغرافي والتشكيل الرقمي.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى