الرأيالمغرب اليوم

بين المطرقة والسندان: قراءة في مغرب بسرعتين..

  • رشيد فاسح //

كثيرا ما جاء في الخطب الملكية في محطات و مناسبات وطنية؛ مصطلح: ( المغرب بسرعتين) ، أي مغرب يسير على سكتان متوازيان بسرعتين مختلفتان، وهي إشارة ضمنية؛ أن المغرب يسير على سكة التطور بخطى ثابتة،لكن بالمقابل في السكة الثانية أعطاب تؤخر الراكبين عن الوصول للسكة الاولى، وتكفي نظرة فاحصة متأنية لتكشف لنا أن هذه السكة ليست واحدة، بل هي سكتان متوازيتان، إحداهما بسرعة القطار فائق السرعة، بينما تئن الأخرى تحت وطأة عربة تجرها الثيران.

هذا هو مفهوم “المغرب بسرعتين”، وهو ليس مجرد مصطلح اقتصادي، بل هو واقع إجتماعي وسياسي يُشكّل جوهر الصراع التنموي في البلاد، ويضعنا جميعاً بين مطرقة الإصلاح من جهة وسندان الواقع من جهة مقابلة .

وتشكل هذه المطرقة ذلك المغرب الأول، وهو تشكيل لتلك المدن الكبرى التي استفادت من تمويلا وخطط حضرية وتأهيل حضري، حيث تلمع واجهاتها الزجاجية تحت الشمس، وتتباهى بمشاريعها العملاقة.

إنها المدن التي تفتح أبوابها للإستثمارات الأجنبية، وتستقبل قطار “البراق”، وتستعرض موانئها الحديثة أمام الإستثمارات الأجنبية على طول المحيط وبحر المتوسط.

هذه هي المطرقة التي تدفع بعجلة التنمية بقوة وتجر معها قطاعات اقتصادية وصناعية ذات وقع كبير في الأسواق والبورصات، وتُحدث ضجة في الأسواق العالمية. لكن هذه المطرقة لا تطرق على فراغ، بل تطرق على سندان.

إنها تطرق على المناطق الهامشية والنائية وساكنتها المنسية، تطرق على أعناق الطبقة الوسطى التي تشعر بتآكل قدرتها الشرائية وتراجع مواردها، و اضمحلال أدوارها المجتمعية، في خلق التوازنات داخل المجتمع المغربي المثخن بالجراح ،

تدق تلك المطرقة على الشباب الذي يرى فرص العمل تقتصر على المدن الكبرى، وتدق على الفلاحين والقروي الذي فقد موارد الماء الجوفية والسطحية المستنزفة، والذي يرى أرضه تتحول إلى صحراء قاحلة، أو إن أمكن إلى مشاريع عقارية.

هذه المطرقة، رغم قوتها، تُخفي وراءها وجهًا آخر من التهميش، فهي لا تضرب بقوة متساوية، بل تركز ضرباتها على مكان واحد وتُهمل الآخر.

في المقابل يأتي “المغرب الثاني” هو السندان الصامت، الذي يتحمل كل الضربات دون أن يشتكي. إنه يمثل المغرب العميق، المناطق الداخلية والقرى النائية، التي لا تصلها طرق سريعة ولا مشاريع صناعية كبرى.

هنا، تُقاس التنمية بعدد الأمتار المقطوعة على طريق وعرة، وتُقاس جودة التعليم بمدى قدرة الأطفال على الوصول إلى أقرب مدرسة، وقدرة النساء على الإنجاب في أحسن الظروف، وقدرة الساكنة على تحمل قساوة الطبيعة وغياب التنمية معا.

فهذا السندان يتحمل عبء التنمية من طرفين: فهو أولاً، لا يستفيد بشكل كافٍ من ثمار التنمية الإقتصادية ، وثانياً، يتحمل نتائج القرارات التي تُتخذ في المركز دون إشراك او استشاره حول خاجيلته الأساسية .

إن أبناء هذا المغرب هم من يهاجرون إلى المدن الكبرى، ويضيفون ضغطًا على بنيتها التحتية المتهالكة، ويساهمون في تنامي مدن الضواحي، والسكن العشوائي، وهم من يواجهون تحديات البطالة والفقر في صمت هم من يحاولون الاختفاء وراء حرف ومهن يدوية بعد أن لفظتهم المدرسة، وضيق الحال.

واعتقد أن السبيل للخروج من هذه المعادلة الصعبة، يتطلب إصلاحًا سياسيًا لا يقتصر على الوعود والخطب، بل يترجم إلى أفعال. يجب على الحقل السياسي أن يدرك أن التنمية لا يمكن أن تكون مستدامة إذا كانت تخدم فئة على حساب أخرى،

وهنا فقط تبرز أهمية الجهوية المتقدمة، ليس كشعار سياسي، بل كآلية حقيقية لتوزيع السلطة والثروة وتحقيق العدالة المجالية والإجتماعية للمواطن المغربي والمساواة بين المغرب الأول والثاني في الحقوق والواجبات.

يجب أن تتحول الجهات من مجرد هياكل إدارية إلى فاعلين اقتصاديين حقيقيين، لهم القدرة على جذب الإستثمارات، واتخاذ القرارات التي تتناسب مع إحتياجاتهم وخصوصياته الثقافية والإجتماعية لمجالتهم الترابية. وهذا لن يتحقق إلا من خلال تعزيز الحكامة الجيدة و محاربة الفساد وهدر موارد التنمية والتوزيع العادل للثروات السطحية والباطنية، البرية والبحرية فالهدر في الموارد المخصصة للتنمية هو بمثابة إعطاء فرصة للمطرقة لضرب السندان بشكل أقوى بلا رحمة، والمغرب المعاصر، لم يعد يتحمل تلك المشاهد الفلكلورية والعجائبية التي يلتقطها السياح الأجانب عن المغرب العميق .

وختاما وليس للقضية ختام، يجب أن يكون المواطن هو محور هذا الإصلاح، لا يمكن أن ينجح أي مشروع تنموي إذا لم يكن المواطن شريكًا وفاعلا أساسيا في بلورته وإحتضانه. يجب أن تُفتح قنوات للحوار والمشاركة المواطنة لا كشعار، بل كممارسة، لا كندوات في لقاءات بقاعات مكيفة، بل كمشاريع تبني وتنزل على أرض الواقع، وأن تُعطى للمجتمع المدني صلاحيات أكبر في مراقبة تنفيذ المشاريع بكل حياد انتصار للصالح العام رغم الاختلافات الايدولوجية.

إن المغرب، بكل سرعاته، يمتلك طاقات هائلة. لكن لكي تتحول هذه الطاقات إلى قوة دافعة حقيقية، يجب أن تضمن لكل مواطن، أينما كان، أن يحظى بفرصة متساوية للمساهمة والإستفادة. عندها فقط، ستتوقف المطرقة عن ضرب السندان، وسيبدأ الإثنان بالعمل معًا في تناغم، لبناء مغرب واحد، لا يعرف إلا سرعة واحدة: سرعة التطور والإنصاف.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى