
الصحافة تأكل نفسها: أزمة الأخلاق مع ثورة مواقع التواصل الاجتماعي
بدء :
عرفت الصحافة، منذ بداياتها، أزمات متكررة في علاقتها بالمجتمع والسلطة والقارئ. لكنها اليوم تعيش أخطر أزماتها الداخلية، حيث أصبحت تأكل نفسها من الداخل. لم يعد التحدي الأكبر آتياً من السلطة أو الرقابة أو حتى من ضعف المقروئية، بل من تجاوزات الصحفيين أنفسهم مع الانفجار الرقمي وظهور منصات التواصل الاجتماعي.
غياب أخلاقيات المهنة:
جوهر الصحافة يكمن في الأخلاق: الدقة، المصداقية، احترام الحقيقة، والتحقق قبل النشر. غير أن ثورة “الفيسبوك” و”تويتر” و”تيك توك” جعلت العديد من الصحفيين يجرون خلف سرعة الخبر بدل جودته، وينشرون المعلومة غير المؤكدة فقط لكسب المتابعة والتفاعل. بهذا السلوك، ضاعت القيم الأساسية للمهنة، وصارت الصحافة في أحيان كثيرة مرادفاً للإشاعة والتضليل بدل الحقيقة والتنوير.
هيمنة الإثارة على حساب المضمون:
بدل نقد المشاريع والسياسات والمؤسسات، اتجه بعض الصحفيين إلى مهاجمة الأشخاص. أصبح التركيز على الحياة الخاصة للشخصيات العامة أهم من تقييم أدائها العام. بهذه الطريقة، تحولت الصحافة إلى أداة للتشهير أكثر منها وسيلة للمساءلة.
صناعة الإشاعة والفرجة:
انتشرت عقلية “السبق” بأي ثمن: نشر أخبار عن وفيات كاذبة، اتهامات غير موثوقة، صور وفيديوهات مجتزأة. هذا السلوك جعل الصحافة تتماهى مع المحتوى الرديء المتداول في شبكات التواصل الاجتماعي، وفقدت بالتالي خصوصيتها كسلطة رابعة مسؤولة.
نشر الكراهية والعنصرية:
الانزلاق الأخطر هو انخراط بعض المنابر والصحفيين في خطابات الكراهية والعنصرية. بدل الدفاع عن قيم التعدد والعيش المشترك، ساهموا في تغذية الانقسام والتحريض ضد فئات معينة، إما بدافع الشعبوية أو لجلب مزيد من “الإعجابات” والمشاهدات. هذا الانحراف الأخلاقي يهدد السلم المجتمعي، ويجعل الصحافة شريكاً في نشر التفرقة.
مسؤولية مضاعفة في العصر الرقمي:
المفارقة أن الصحفي، في زمن السوشيل ميديا، لم يعد فقط ناقلاً للخبر، بل صار منافساً لملايين “المواطنين الصحفيين”. وهنا تكمن مسؤوليته الحقيقية: أن يحافظ على المعايير المهنية التي تميزه عن غيره. غير أن الكثير من الصحفيين تنازلوا عن هذا التفوق، وانساقوا وراء منطق السوق الرقمي.
عود على بدء :
اليوم، تأكل الصحافة نفسها عندما تفقد رسالتها وتتحول إلى مجرد آلة لإعادة إنتاج محتوى شبكات التواصل الاجتماعي. فإذا لم يستعد الصحفيون البوصلة الأخلاقية للمهنة، فإن الصحافة لن تموت بسبب الرقابة أو ضعف التمويل، بل بسبب انتحارها المهني من الداخل.

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News