
الماء بين الندرة العالمية ورهان التحلية: التجربة المغربية في الميزان
- بقلم: حسن كرياط – المغرب//
لم يعد النقاش حول المياه ترفًا بيئيًا أو نقاشًا تقنيًا معزولًا. إنّه سؤال وجودي يعكس التوترات الكبرى التي تعصف بعالم اليوم: النمو السكاني المتسارع، التغير المناخي، أنماط الإنتاج والاستهلاك المفرطة، والاختلالات الجغرافية في توزيع الموارد. ووفقًا لتقارير أممية حديثة، يعيش أكثر من ربع سكان العالم تحت ضغط ندرة مائية حادة، بينما يواجه نصف سكان الأرض شحًّا دوريًا يمتدّ لشهر واحد على الأقل سنويًا.
أمام هذا المشهد القاتم، برزت تحلية مياه البحر كخيار استراتيجي يَعِد بتوفير مورد لا ينضب على السواحل. لكن هل يمكن اعتبار التحلية الحلّ السحري لأزمة المياه؟ أم أنّها، رغم ضرورتها، تظل مقاربة جزئية محدودة التأثير إذا لم تندمج ضمن رؤية شمولية لإدارة الموارد؟
تحلية المياه: صناعة عالمية في قلب التحديات
الفكرة قديمة؛ فقد لجأ البحارة الإغريق والرومان إلى تقنيات بدائية لفصل الملح عن الماء. لكنّ القفزة الكبرى حصلت في القرن العشرين، حين تحولت التحلية إلى صناعة متطورة تقودها دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات، التي تملك اليوم بعضًا من أضخم محطات التحلية في العالم.
اقتصاديًا، تعكس الأرقام حجم الرهان: سوق التحلية بلغ نحو 25.6 مليار دولار سنة 2024، مع توقعات أن يتضاعف ليصل إلى 50 مليار دولار بحلول 2032. هذه الطفرة تكشف أنّ الماء لم يعد مجرد مورد طبيعي، بل صار مجالًا جيوسياسيًا واقتصاديًا بالغ الحساسية.
ورغم هذه الدينامية، تظل التحلية محاطة بثلاثة تحديات رئيسية:
التكلفة المرتفعة، ما يجعل اعتمادها صعبًا على الدول النامية.
الأثر البيئي السلبي الناتج عن تصريف المحاليل المالحة والمواد الكيميائية.
الاعتماد الكبير على الطاقة، في وقت يتطلب فيه التغير المناخي التحول نحو الطاقات النظيفة.
المغرب: من شحّ المياه إلى رهانات التحلية
على خط مواجهة أزمة المياه، يبرز المغرب كحالة دراسية فريدة. فبلد يتموقع على بوابة الصحراء ويعتمد بشكل كبير على الزراعة، لا يمكنه أن يتجاهل تصاعد مؤشرات الندرة.
فمنذ بداية الألفية، أظهرت تقارير رسمية أنّ نصيب الفرد المغربي من الموارد المائية تراجع بشكل حاد، حيث انتقل من أكثر من 2500 متر مكعب سنويًا في ستينيات القرن الماضي إلى أقل من 600 متر مكعب اليوم، وهو ما يضع البلاد في خانة الندرة الحادة.
في هذا السياق، أطلق المغرب سياسة طموحة للتحلية ضمن ما يعرف بـ البرنامج الوطني للتزويد بالماء الصالح للشرب ومياه السقي (2020-2027).
أهم ملامح التجربة المغربية:
أكادير: مشروع يعدّ الأكبر في إفريقيا، بطاقة إنتاج تفوق 275 ألف متر مكعب يوميًا موجهة للشرب والسقي.
الدار البيضاء – المحمدية: مشروع ضخم قيد الإنجاز بطاقة تصل إلى 548 ألف متر مكعب يوميًا لتأمين احتياجات العاصمة الاقتصادية.
العيون والداخلة: مشاريع في الأقاليم الجنوبية، حيث يعتبر البحر المورد الرئيسي لتأمين حاجيات السكان والمستثمرين.
الرهان المغربي مزدوج: ضمان الأمن المائي الحضري من جهة، وحماية النشاط الزراعي الموجه للتصدير من جهة أخرى، خصوصًا في مناطق سوس-ماسة والداخلة التي تعد خزانات غذائية استراتيجية.
نقاط القوة في التجربة المغربية
رؤية استباقية: المغرب أدرك مبكرًا أنّ السدود وحدها لم تعد كافية لمواجهة الجفاف.
شراكات دولية: الانفتاح على خبرات إسبانية وصينية وخليجية ساعد على تطوير المشاريع بسرعة.
دمج الماء والفلاحة: توجيه جزء من الإنتاج نحو الري بالتنقيط في مناطق تصدير الخضر والفواكه.
التحديات والانتقادات
رغم الطموح، تظل السياسة المغربية محفوفة بتحديات:
الكلفة العالية: تعرفة الماء المحلّى قد تبقى فوق قدرة الأسر الفقيرة.
البصمة البيئية: تساؤلات حول مصير المحاليل الملحية وتأثيرها على النظم البحرية.
التوازن الترابي: تركيز المشاريع في مناطق الساحل يثير مخاوف من تهميش المناطق الداخلية البعيدة عن البحر.
ارتباط بالزراعة التصديرية: هناك من يعتبر أنّ جزءًا مهمًا من ماء التحلية يذهب لدعم الفلاحة الموجهة للتصدير بدل الأمن الغذائي المحلي.
نحو رؤية شمولية للماء في المغرب
إذا كانت التحلية خيارًا لا مفر منه، فإنّ مستقبل الأمن المائي المغربي يحتاج إلى مقاربة أوسع:
1. إصلاح السياسات المائية: مواجهة الهدر في شبكات التوزيع التي تفقد ما يصل إلى 30% من المياه.
2. إعادة استخدام المياه العادمة: وهو مجال بدأ المغرب يطرق أبوابه لكنه ما زال محدودًا.
3. حصاد مياه الأمطار: خصوصًا في القرى والمناطق الجبلية.
4. الطاقات المتجددة: ربط محطات التحلية بطاقة الرياح والشمس لتقليل الكلفة والانبعاثات.
5. عدالة مائية: ضمان أن يستفيد المواطن العادي كما يستفيد المستثمر الكبير، تفاديًا لعدم المساواة الاجتماعية.
الماء ليس مجرد سلعة اقتصادية أو مورد طبيعي، بل هو أساس الحياة ومفتاح الاستقرار السياسي والاجتماعي. والتجربة المغربية في تحلية مياه البحر تكشف عن جرأة في مواجهة الأزمة، لكنها أيضًا تضعنا أمام سؤال أعمق:
هل نريد حلولًا تقنية تُسكّن الألم، أم رؤية حضارية تُعيد صياغة علاقتنا بالبيئة؟
إنّ نجاح المغرب في رهانه لن يُقاس فقط بحجم المحطات المنجزة، بل بقدرته على جعل الماء حقًا مشاعًا وعدلًا اجتماعيًا، لا مجرد وقود لاستمرار أنماط استهلاك غير مستدامة. وحدها السياسات المائية المتوازنة، المدعومة بالوعي الجماعي والمسؤولية المشتركة، قادرة على تحويل أزمة الماء من تهديد وجودي إلى فرصة لإعادة بناء علاقتنا بالأرض.

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News