
في سريالية المشهد السياسي..لاتغتالوا ما تبقى من الديمقراطية..
“الديمقراطية ليست عصا سحرية، لكنها أفضل ما توصلت إليه البشرية لتنظيم حياة المجتمعات. وعندما تبدأ في التآكل، تظهر علاماتٌ لا تخطئها العين، وتصبح ملامح المشهد السياسي سريالية إلى حدّ الذهول.”
الثقة المهدورة: العزوف كغول يلتهم الديمقراطية
إن أكبر غول يهدد الديمقراطية ليس القمع الخارجي دائمًا، بل هو تآكلها من الداخل. الأمر يبدأ في صمت، مع تراجع منسوب الثقة لدى المواطنين. فالمواطن الذي انتخب ممثلاً عنه في البرلمان أو في المجلس المحلي، يكتشف تدريجياً أن صوته لم يكن سوى رقم في إحصائية، وأن سلطة هذا الممثل المنتخب لا تتعدى حدود منصبه الشكلي.
هذا الشعور بالخيبة يولد “العزوف”، وهو ليس مجرد قرار بعدم التصويت، بل هو حالة من فقدان الإيمان بالعملية السياسية برمتها. وعندما يفقد المواطنون إيمانهم بأن أصواتهم تحدث فرقًا، وأن مؤسسات الدولة تعمل من أجلهم، يبدأون في الانسحاب. هذا الانسحاب له أوجه متعددة:
• العزوف عن المشاركة: يتوقف الناس عن التصويت، وعن الانخراط في الأحزاب، وعن المشاركة في النقاشات العامة. يصبحون مشاهدين سلبيين بدلاً من أن يكونوا فاعلين. هذا يترك الساحة فارغة أمام القوى المنظمة، حتى لو كانت أقلية، للسيطرة على المشهد.
• فقدان الثقة في المؤسسات: عندما لا يرى المواطن أن البرلمان يمثله، أو أن القضاء عادل، أو أن الإعلام مستقل، تتآكل شرعية هذه المؤسسات. ويؤدي ذلك إلى حالة من العدمية السياسية، حيث لا يؤمن أحد بقدرة أي مؤسسة على تحقيق الصالح العام.
في المقابل، تزداد سطوة “الإدارة”. هذه الكلمة التي تحمل في طياتها معنى التنظيم والكفاءة، تتحول إلى مرادف للتدخل والحلول الفوقية. فبينما يطالب الشعب بالشفافية والمساءلة، تتدخل الإدارة لتُقزِّم أدوار المؤسسات المنتخبة، وتتخذ القرارات المصيرية بعيداً عن ضجيج النقاش العام، وكأنها تتبنى شعار “الخبير يحلّ المشكلة أفضل من السياسي”.
من له المصلحة في هذا “التقزيم”؟
السؤال هنا ليس عن جهةٍ بعينها، بل عن ذهنية. ذهنية ترى في الأحزاب والنقابات والجمعيات، بل وحتى في بعض المؤسسات الدستورية، مجرد عقبات بيروقراطية أمام “الفعالية” و”السرعة” في اتخاذ القرار.
إن القضاء على دور هذه المؤسسات هو قضاء على فكرة الوساطة بين المواطن والسلطة. وعندما تُضعف هذه القنوات، يفقد المواطن الإحساس بالانتماء السياسي، وتصبح المشاركة في الحياة العامة مجرد عبء أو تفصيل ثانوي.
وهنا تكمن المأساة، عندما يُنظر إلى الشعب كـ “طفل قاصر غير قادر على تدبير أموره وتحمل المسؤولية”.
هذه النظرة لا تهين المواطن فحسب، بل تُدمّر أساس العلاقة بينه وبين الدولة، تلك العلاقة القائمة على المواطنة الكاملة، لا الوصاية.
وقد أدت هذه الحالة إلى فرار وتواري الطبقة المتوسطة المستنيرة، وهي عمود المجتمع الفقري. عندما يرى الطبيب والمهندس والمعلم أن الكفاءة ليست السبيل للتقدم، وأن الولاء والمحسوبية هما من يحكمان، يبدأون بالبحث عن ملاذ آمن في الخارج. هذا النزوح لا يترك فراغاً فحسب، بل يخلّف وراءه مجتمعاً يفتقر إلى القيادات الفكرية، مما يسهل على الأفكار المتطرفة والخطابات الشعبوية السيطرة على المشهد.
كيف السبيل للخروج من متاهة اليأس؟
إن الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل هي عمليةٌ مستمرة من الحوار، والمشاركة، والمساءلة. وإذا كانت هناك رغبةٌ حقيقية في إصلاح المشهد السياسي، فعلينا أن نبدأ بإعادة الاعتبار لهذه المؤسسات، وأن نؤمن بأن الشعب، بكل تنوعه، هو الوحيد القادر على تحديد إختياراته بكل حرية ومسؤولية.
فلا تغتالوا ما تبقى من الديمقراطية، لأن البديل عنها ليس الكفاءة، بل الفراغ الذي يملؤه اليأس من التغيير، وهو ما يهدد بانهيار المنظومة الديمقراطية بأكملها ويفتح المجال لليأس والتطرف

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News