
غضب الأطلس: حين يدفن التهميش ذاكرة الفن والفنان الأمازيغي
- بقلم: حُستي محمد
في عمق جبال الأطلس المتوسط، حيث ما تزال القرى الأمازيغية تُغني وتتغنى بالحقول والوديان والجبال وتقديس الطبيعة روحيا ، وتردد نساء الجبال أهازيج أحيدوس وثاموايث في الأعراس والحصاد وفي كل الحياة الاجتماعية الأطلسية ، تعيش الفنانة الأمازيغية فاطمة أومارش، المعروفة بلقب “تيت فيت“، وضعاً إنسانياً مقرفا يُثير الخجل من أنفسنا أولا ومن المؤسسات الاجتماعية الوصية على قطاع الفن .
هذه المرأة الفنانة المعطاء التي لم تكن مغنية عابرة بين الكواليس المظلمة ، بل كانت مناضلة وأرشيفاً حياً للغناء والفن الأمازيغي، تحمل في تقاسيم تجربتها المر والحلو وفي صوتها ملامح قرون من الذاكرة الشفوية الأمازيغية المشتركة ، وتختزن في ذاكرتها أشعار الجدات وحِكم الأجداد القدامى .
واليوم يوم الغضب بالواضح وبالصوت العالي أرفع صراخ هذه الفنان الى كل مسؤول والى كل مؤسسة وصية أن تكرم في الحياة قبل الممات كل إنسان أفنى حياته من أجل قضية فنية تراثية إنسانية ، هذه الفنانة بعد أن أفنت حياتها في خدمة الفن والتراث الأمازيغي المغربي ، نجدها مهملة، مهمشة، مبعدة من كل حقوقها في الكرامة الانسانية وتنادي بصوت مبحوح أن تلتفت إليها وزارة الثقافة وكل المؤسسات الوصية ، وكأن طلبها “منّة” لا حقاً مشروعاً.
- تاريخ من الإبداع مقابل حاضر من الإهمال
منذ عقود، جالت الفنانة فاطمة أومارش بين دواوير وتضاريس الأطلس المتوسط، حاملة صوت الأرض، مرافقة المجموعات الغنائية و فرق أحيدوس في الليالي القمرية، مفرحة العروس ومؤنسة الساهرين بصوتها الشجي . كانت أغانيها تُروى وتتناقل شفاهياً، قبل أن تصل آلات التسجيل إلى جبال الأطلس المتوسط .
هي جزء من جيل رائد حمل الفن الأمازيغي بلا أجور، بلا عقود، وبلا أي ضمان لمستقبله. اليوم، بعدما شابت خصلات الشعر وتعب الجسد، لا نجد حولها سوى صمت رسمي، وتجاهل مؤسسي، وكأن رسالتها الفنية لم تكن سوى فصل صغير في هامش ثقافي منسي.
- التهميش الممنهج للفنان الأمازيغي
قضية الفنانة “تيت فيت” ليست سوى قمة جبل الجليد. فالفنان الأمازيغي في الأطلس المتوسط يظل أسيراً لمعادلة ظالمة: يُستغل صوته وموهبته في المهرجانات والمناسبات الرسمية لتزيين صورة الثقافة الفولكلورية ، ثم يُرمى بعد أن تنطفئ الأضواء على القاعات.ا تقاعد، لا تغطية صحية، لا أرشفة لأعمالهم، ولا حتى اعتراف رمزي يليق بتضحياتهم. هكذا يُختزل المبدع الأمازيغي في وظيفة ترفيهية موسمية، بدل أن يُعامل كحامل لذاكرة الأمة.
- مسؤولية الدولة والمجتمع
وزارة الثقافة، ومعها الجماعات المحلية والمجالس المنتخبة، تتحمل مسؤولية تاريخية وأخلاقية في ما يحدث من تهميش للفنان الأطلسي عامة . فحينما تُترك فنانة بحجم فاطمة أومارش وحيدة أمام قسوة الحياة، فهذا يعني أن هناك خللاً عميقاً في فلسفة تدبير الشأن الثقافي.
المطلوب ليس مجرد “التفاتة إنسانية” عابرة، بل سياسة ثقافية شاملة:
- إحداث صندوق وطني لتقاعد الفنانين الشعبيين يضمن لهم حياة كريمة بعد سنوات العطاء.
- إطلاق برنامج وطني لتوثيق التراث الشفوي بالصوت والصورة قبل أن يضيع مع رحيل حامليه.
- إدماج الرواد في المؤسسات التعليمية والثقافية كمدربين ومستشارين لنقل خبراتهم للأجيال.
- تحميل الجماعات الترابية مسؤولية مباشرة في رعاية الفنانين المحليين، بدل الاكتفاء بتهميشهم.
- إعادة هيكلة وزارة الثقافة لتكون مؤسسة فاعلة في حماية التراث الإنساني، لا مجرد جهة تنظيمية للمهرجانات.
- صرخة وغضب الأطلس
ختاماً، ما يجري اليوم من أحداث في الفن الأمازيغي والثقافة عامة لا يمكن حصره في مجرد مأساة إنسانية عابرة، بل نعتبرها فضيحة ثقافية وأخلاقية مكتملة الأركان، وجريمة في حق الذاكرة الجماعية الأمازيغية.
ما معنى أن تترك فنانة بحجم فاطمة أومارش تتألم وتصرخ ، هي التي أفنت عمرها في حمل ونقل التراث الأمازيغي على كتفيها، وحاليا تواجه شيخوختها وحيدة بلا سند ولا معيل ، هذا دليل صارخ على فشل الدولة ومؤسساتها الثقافية في أداء أبسط واجباتها.
إن وزارة الثقافة، ومعها الجماعات الترابية والمجالس المنتخبة، تتحمل مسؤولية مباشرة في هذا التهميش، لأنها اكتفت، لعقود، بتسويق صورة الثقافة الأمازيغية في المهرجانات والملصقات الدعائية، دون أن تكلف نفسها عناء وضع سياسة حقيقية لصون الإنسان الحامل لهذا التراث.
لقد تحولت الثقافة في نظرهم إلى سلعة موسمية، تُستغل أضواؤها ثم تُطفأ حين ينتهي العرض، وكأن الفنان الأمازيغي مجرد ديكور بشري لا ذاكرة له ولا حقوق.
- إننا أمام مأساة مضاعفة: مأساة الإنسان ومأساة التراث.
فحين يموت المبدعون بصمت، تموت معهم آلاف الأبيات الشعرية والألحان والإيقاعات التي لا تُقدّر بثمن، ولا يمكن استعادتها من كتب أو أرشيفات.
هذا النزيف الثقافي المستمر هو حكم إعدام بطيء على الثقافة الأمازيغية نفسها، وعلى الهوية التي لا تحمي رموزها.
إن إنقاذ فاطمة أومارش وأمثالها ليس إحساناً، بل واجب وطني وأخلاقي.
وأي تقاعس عن ذلك، ليس فقط خيانة لرموزنا، بل خيانة لروح هذا الوطن نفسه.
و نسجل أيضاً أن صرخة فاطمة أومارش هي امتحان صعب ليستفيق ضميرنا الجماعي: وهل سنكتفي بالبكاء على الأطلال بعد رحيل رموزنا، أم نتحرك لإنقاذهم وهم أحياء؟

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News