الرأيالعالم اليوم

هل نجح طوفان الأقصى في الإجهاز استراتيجيا على “الحل الصهيوني” ل”المسألة اليهودية” من المسافة الصفر؟

  • الدكتور الحبيب الشوباني //

1. في تحديد المقصود من اصطلاح “المسألة اليهودية”.

يطلق مصطلح ” المسألة اليهودية ” أو ” المشكلة اليهودية ” على النقاش الديني والفكري والسياسي والقانوني الذي نشأ في ألمانيا وانتشر في مجتمعات أوروبا الغربية في القرون الثلاثة الأخيرة (ق18 وق19 وق20)، والذي دار حول المواقف الواجب اعتمادها في التعامل مع اليهود كأقلية عصية على الاندماج، أخذا بعين الاعتبار ( أولا ) عائق منظور المسيحيين الذي يجرم اليهود تجريما أبديا بسبب علاقتهم بصلب ” المسيح/ ابن إله المسيحيين “، مستنتجين من ذلك اتصاف طبيعتهم بالشر والإفساد، وبالنتيجة استحالة التعايش معهم، واعتبار عزلهم في أحياء خاصة بهم واضطهادهم من ضرورات حماية المجتمعات من شرورهم؛ و( ثانيا ) عائق منظور اليهود للمسيحين (كونهم من الغوييم/ الأغيار) الذي يُستمد من الاعتقاد بكون اليهود هم ” شعب الله المختار ” النظرة الاستعلائية والتحقيرية لغير اليهود، كونهم من طبيعة بشرية منحطة وغير طاهرة.

وقد أسهم التطور الفكري للمجتمعات الأوروبية إبان عصر التنوير و” إعلان حقوق الإنسان والمواطن” الذي بشرت به الثورة الفرنسية من التحسن التدريجي للوضع الاجتماعي والقانوني لليهود، اتسم بالاستيعاب والاندماج والتحرر، في ظل تنامي إصدار التشريعات القائمة على مراعاة مبادئ المساواة والمواطنة، وخصوصية الشأن الديني، وفصل الدين عن الدولة.

لكن “المسألة اليهودية” ظلت حاضرة في اللاشعور الثقافي الغربي وانبعثت مجددا مع الفكر السياسي للحركات القومية الأوروبية في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، نتجت عن ذلك تفشي ممارسات معادية للتعايش مع اليهود، توصف ب” معاداة السامية “، بلغت ذروتها مع الحركة النازية التي ابتكرت مقولة ” الحل النهائي للمسألة اليهودية ” لتصفية الوجود اليهودي في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية.

في الجانب اليهودي، وبينما رأت الحركة الصهيونية أن حل ” المسألة اليهودية ” يقتضي إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فإن حركات دينية يهودية عارضت هذا المسعى لاعتبارات دينية توراتية خالصة، من أبرزها حركة ” ناطوري كارتا Neturei Karta ” شديدة العداء للصهيونية والمناصرة لحقوق الشعب الفلسطيني، والتي تعتبر أن حل ” المسألة اليهودية ” مرتبط بالعودة المعجزة للمسيح كما تنص على ذلك التوراة، وأن الصهاينة ليسوا يهودا بسبب مخالفتهم لهذه التعاليم وسعيهم لإقامة دولتهم المارقة توراتيا على أرض الشعب الفلسطيني.

2. في مفهوم “الحل الصهيوني” ل”المسألة اليهودية”.. ومأزقه التاريخي

في ثلاثينيات القرن الماضي، شارك دافيد بن غوريون (بولوني الأصل من القادة المؤسسين للكيان الصهيوني، وأول رئيس له) في لقاءٍ أكاديمي بالقدس، من تنظيم جمعية سياسية تدعى ” Brit Shalom/تحالف السلام “. تأسست الجمعية سنة 1925من طرف نخبة من المفكرين ورجال الأعمال الصهاينة، وفي سنة 1930 نشروا أطروحتهم السياسية لحل “المسألة اليهودية” على شكل “قائمة مقترحات” تعرض ما يؤمنون بكونه أقصر الطرق القمينة لوضع حدٍّ لمأساة الشتات اليهودي، وتحقيق الاستقرار الآمن والدائم لليهود في وئام مع الفلسطينيين. جوهر “القائمة” يدعو لجعل فلسطين دولة ثنائية القومية Etat binational ، تتسع لجميع مواطنيها بغض النظر عن ديانتهم، ومنح العرب واليهود نفس الحقوق السياسية.

لكن بن غوريون بعد إصغائه لمرافعات مُنَظّري “تحالف السلام”، انتفض في وجوههم، رافضا لأطروحتهم وقائلا لأصحابها: ” لقد جئنا إلى هنا لا لِكَي نقيم دولة فلسطينية، ولكن لكي نقيم دولة يهودية؛ وعلى أي حال، فإن أكبر انتصار للصهيونية هو تحويل “المسألة اليهودية” إلى “مشكلة عربية” / « On est venu ici pas pour faire un Etat palestinien, mais pour faire un Etat juif ; de toute façon, la plus grande victoire du sionisme c’est de transformer la Question Juive en Problème Arabe.. ! »

بناء على دلالات ورمزيات هذه الواقعة، وبعد نازلة طوفان الأقصى المنتجة لأوضاع مُشبَعة ب “لايقين وجودي incertitude existentielle” تمُرُّ به “دولة الكيان الصهيوني” لأول مرة في تاريخها القصير جدا، من المهم مساءلة صيرورة ومآلات “المسألة اليهودية”، على ضوء التحولات الكبرى الجارية في فلسطين المحتلة منذ 7 أكتوبر 2023، والتي مؤداها أن “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية la solution sioniste de la question juive” – حسب قاموس بن غوريون – أصبح يعيش في مأزق وجودي جِدّي بعد صدمة 7 أكتوبر التي أفاق فيها على وجود ” الحل الفلسطيني للمشكلة العربية” ، والتي طالما ازْدَراها “الحل الصهيوني” لصالح نظرة استعلائية تؤمن بقوة الردع لا بقوة الحق، كما حاول “تحالف السلام” الابتعاد عن هذا الازدراء دون نجاح يذكر.

لكن يبدو أنه من سوء حظ “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” أن إسراف الكيان الصهيوني في ارتكاب جرائم الإبادة في حق المدنيين الفلسطينيين، تزامن مع الثورة الرقمية التي جعلت العالم يعيد اكتشاف وبناء السردية الحقيقة لطبيعة النشأة غير الطبيعية ل”إسرائيل”، وكيف تغذَّت في تضخمها الوجودي من صناعة النكبات المتواصلة للشعب الفلسطيني؟ وكيف تمددت على أنقاضه؟ لكن في المقابل أيضا، إعادة اكتشاف كيف أنها رغم كل ذلك لم تستطع استئصاله أو اغتيال حلمه المشروع في الاستقلال وتقرير المصير؟

يتبع….(المقالة الثانية)

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى