الرأيالثقافة

التربية بشكل مقلوب

  • بقلم: المكي بوسراو //

لعل الركن المؤسس للتربية هو إحلال مبدأ الواقع مكان مبدأ اللذة. إلا أن ما وصلت إليه التربية اليوم مناقض تماما لجوهرها. يمكن إجمال ما انتهت إليه التربية أو بالأحرى ممارسة التربية اليوم في الشعار التالي: “من اللذة إلى اللذة”، بمعنى أن الطفل ليس مطلوبا منه الانتقال من عالم المتعة إلى عالم الواقع، بل الانتقال من عالم المتعة إلى عالم المتعة.

إنه بصيغة أخرى، يراوح مكانه ولا يغادر عالم اللذة بتاتا. فهو يظل طفلا على الدوام: يستمتع بالملذات دون حواجز أو موانع. فالأمهات والآباء المعاصرون يرفضون الحرمان والمعاناة  لأنهم لا يفهمون أو لا يريدون أن يفهموا وجود مسافة بين الرغبة وتحقيقها، رغم أن هذه المسافة ضرورية وحيوية في مجال التربية.

لماذا؟ لأنها تعلم الفرد التحكم في نزواته الغريزية عبر خلق مسافة بين الإشتهاء والإشباع. والتحكم هو تدبير للرغبات التي تصطدم بالواقع أو بالأحرى تدبير للأزمات الناتجة عن التوتر القائم بين اندفاع الرغبة وجدار الواقع أي جدار القيم والتقاليد والقوانين والأعراف، التي عادة ما تشكل حاجزا منيعا يتصدى للرغبات ويمنعها من التحقق، ما دام الكبح هو الذي يجمع بين هذه الأشياء.

لكنه كبح ضروري يجعل الشخص يعي بأن إشباع الرغبات كلها ليس ممكنا وأن الكبت لا بد منه، باعتباره آلية نفسية لتحويل النزوات الغريزية أو تأجيلها. من خلالها يدرك كل منا، منذ طفولته أن من مصلحته توجيه رغباته وتدبيرها بشكل سوي ومتوازن.

أما إذا فسح لها المجال بدون قيد أو شرط فإنه سيصير عبدا لها، بمعنى أنه سيفقد سيطرته على الوضع وستكون شخصيته ضعيفة ومضطربة. فمع المنع الذي تفرضه التربية يدرك الطفل أن كل شيء ليس مباحا وأن المنع قائم وهو سمة الواقع، ومن مصلحته التعامل معه بشكل ذكي وإيجابي، إذ لا يمكن القفز على الواقع أو تجاهله.

وهذا المعطى هو الذي سيساعده على النمو السوي و الإيجابي، الذي من شأنه أن ينقله من الطفولة إلى ما بعدها. لأن المراقبة والمنع سيوجهان تفكيره إلى البحث عن حلول للمشكلات التي اعترضته وإبداع الصيغ التي ستضمن له توازنه النفسي والاجتماعي، مما سيجعله يكتسب خبرات جديدة ويواجه تحديات ومخاوف، لا شك أنها ستساهم في بناء شخصيته القوية.

إن الأمهات والآباء، حين ينوبون عن أبنائهم ولا يتيحون لهم فرصة مواجهة المشاكل بدعوى  الخوف عليهم، يسيرون ضد منطق التربية وضد مصلحة أبنائهم. حيث يعملون، من حيث لايدرون، على إضعاف شخصياتهم ويقوضون أية إمكانية لتطوير مهاراتهم و كفاءاتهم العاطفية والتفاعلية.  الأمر الذي سيفرز لديهم لاحقا، توترات واضطرابات  سلوكية فادحة لا بل عقدا وأمراضا نفسية مزمنة.

المكي بوسراو

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى