الرأيالثقافة

أركيولوجيا الحركة الامازيغية بالريف الشرقي..تجربة شخصية

  • بقلم عبد السلام خلفي //

لا يتعلق الأمر هنا بدراسة أكاديمية، ولكن بشذرات ذكريات شخصية. وعليه، فإن أي قصور في الإحاطة بتجربة الحركة الامازيغية بالريف يشفع لي فيه أنني لا أدعي هذه الاحاطة. إن التأريخ لهذه التجربة يستدعي الكثير من الأقلام التي قد تبدأ، في نظري، تسجيلات لتجارب شخصية للأفراد كي تتحول، ربما في مراحل تالية، الى دراسات ذات نفس علمي.

خلال هذه الفترة الممتدة ما بين 1986 و1990 بدأنا، نحن طلبة MCA، نتوصل بعدد مهم من المقالات التي كانت تنشر في مراحل سابقة عن تراثنا الثقافي الأمازيغي وعن بدايات تشكل الوعي الأمازيغي بكل من المغرب والجزائر؛ من ذلك مثلا المقال الذي كان قد نشره محمد شفيق بعنوان”حول تراثنا المجهول” بمجلة آفاق في ستينيات القرن الماضي، والذي استنسخنا منه العشرات من النسخ ووزعناها على الطلبة، ومن ذلك أيضا مقالات للمرحوم قاضي قدور ولمرزوق الورياشي ومحمد الشامي حول قضايا واشكالات تتعلق بمفهوم اللغة ( الأمازيغية لغة ام لهجة؟- قاضي قدور) أو باللغة في علاقتها بالثقافة الشعبية ( الثقافة الشعبية والمشكل اللسني- مرزوق الورياشي) أو بإشكاليات الكتابة الأمازيغية (محمد الشامي) أو كذلك بعبقرية الامازيغية – محمد شفيق؛

وهي مقالات كانت قد نشرت إما في أعمال الدورة الأولى للجامعة الصيفية باكادير سنة 1980 أو باعمال الدورة الثالثة التي صدرت سنة 1988 إضافة الى مقالات أخرى كانت تأتينا عن طريق بعض الطلبة، من الجزائر والتي كانت تنشر في الغالب بمجلة تافسوت التي كانت تصدر بعد أحداث الربيع الامازيغي بالقبائل، وكان يكتب بها كتاب من أمثال مولود معمري وسالم شاكر وفرحات مهني وسعيد السعدي الى جانب مغاربة أمثال قاضي قدور وميلود الطايفي وبونفور واكواو إلخ.

وأعتقد أن ما كان يميز هذه المجلة الأخيرة هي كونها كانت تطرح قضايا للنقاش ذات أبعاد سياسية واضحة، وذلك من نمط قضايا الثقافة والديموقراطية وماهية الحركة الأمازيغية بالجزائر – سعيد السعدي ومولود معمري الخ.

وفي نفس السياق بدأت تصلنا بعض أعداد مجلة أمازيغ التي كان يكتب فيها كذلك محمد شفيق والمحجوبي أحرضان والمهدي المنجرة وعلي صدقي أزايكو، هذا الاخير الذي دخل السجن بسبب نشره مقالا بالمجلة تحت عنوان : ” في سبيل مفهوم حقيقي لثقافتنا الوطنية”.

والحقيقة أن مضامين هذه المقالات، التي نسخت منها نسخ كثيرة، كانت تشكل بالنسبة لنا زادا محفزا لكي ندافع ونحاجج زملاءنا الطلبة الملتزمين بالقومية او غير المقتعنين باطروحتنا عن مشروعية الاعتراف بلغتنا وثقافتنا الامازيغيتين.

ثم بعد ذلك بدأنا نتعرف أو نقدم قراءات خاصة بنا عن مواقف الأحزاب، في ظل غياب القراءت العلمية، وذلك كموقف حزب الاستقلال المغربي من الأمازيغية وكيف أنه كان السبب الحقيقي لاندلاع ثورة عدي اوبيهي بالاطلس سنة 1957 وثورة الريف سنة 1958 بل وكيف كان عنيدا في معاداته للأمازيغية باتهام الريفيين بالعنصرية ووقوفه ضد مطلب أحرضان (من الحركة الشعبية) تدريس الأمازيغية في السبعينيات، كما كنا نتوصل كذلك بنصوص أخرى، هي عبارة عن تقارير، كنا نقوم باستنساخها على عجل والتي منها التقرير الذي كان قد أنجزه محمد شفيق لصالح الدولة المغربية.

من خلال هذه النصوص والتقارير والمقالات بدأنا، إذن، نتعرف أكثر على مواقف الحركة الوطنية، كما بدأنا نفهم، بشكل ما، الخلفيات الايديولوجية للتعريب. لقد انتشر حينئذ بيننا أن الاستقلاليين في عهد امحمد الدويري كانوا قد وضعوا برنامجا شاملا لتعريب التعليم وأن هذا الاخير قدمه للمجلس الحكومي كي يصادق عليه ويقوم بتنزيله إلا ان أحرضان، المدافع عن الأمازيغية، لم يكن راضيا عن المشروع، مما جعله يقف في وجه الدويري ويترافع ضده.

وهو الأمر الذي دفع بالملك الحسن الثاني آنذاك الى تكليف محمد شفيق كي يقدم له تقريرا دقيقا عن الامازيغية، تمخض عنه إعداد نص قانوني لإنشاء معهد خاص بالأمازيغية سمي بمعهد الدراسات البريرية سنة 1978، ولكن نظرا لمعارضة حزب الاستقلال لإنشاء هذه المؤسسة فقد أقبرت بالبرلمان ولم تر النور أبدا.

والواقع أن هذه المعلومات، على ندرتها، بقدر ما شكلت مرتكزا حجاجيا آخر لمقارعة المتحزبين الوطنيين واتهامهم بكونهم هم سبب الوضع المتردي الذي أصبحت تعيشه الأمازيغية، بقدر ما كان يشكل ذلك حرجا لنا كذلك على اعتبار أن الهيمنة الايديولوجية للحزبين العروبيين (الاستقلال والاتحاد الاشتراكي) كانت تجعلنا كما لو اننا في موقع المدافعين عن حزب أحرضان الذي كان ينظر إليه، في تلك الفترة، نظرة الحزب الإداري الرجعي والمخزني المناوئ للقضايا الشعبية وللبروليتاريا الكادحة.

لقد كانت هذه الاخبار التي تأتينا شفوية أحيانا أو في شكل مقالات، تجعلنا نشكك في كل ما لقنته لنا المدرسة وفي كل ما تلقنه لنا الجامعة، ونحاول بامكانياتنا الذاتية الفهم أكثر وإعادة قراءة تاريخ الحركة الوطنية، ناسبين تخلفنا الثقافي واللغوي والهوياتي الى سياسة حزب معين.

وهكذا فبعد أن كان محمد عابد الجابري الفكيكي بالنسبة إلينا أحد أركان الفكر المغربي ومرجعا للتحرر الاشتراكي، انتفضنا ضده ليتحول، في نظرنا، إلى “خصم” ثقافي نظرا لدعوته، في أحد مؤلفاته، الى إماتة اللهجات وبخاصة الأمازيغية.

وما زاد نفورنا أكثر من الحركة الوطنية هو صدور كتاب أواخر الثمانينات يروي فيه صاحبه المهدي المومني التجكاني عن فظاعات ما، قامت بها “ميليشيات” حزب الاستقلال ضد المقاومين.

يتعلق الأمر بكتاب يحمل عنوان “دار بريشة أو قصة مختطف”. لقد تحول هذا الكتاب، في سياق المحاججات الطلابية، الى دليل قاطع على أن الحزب لم يقف فقط ضد الأمازيغية وضد تراثنا التليد، ولكنه اغتال كذلك المقاومين الحقيقيين. والذي زاد من قناعاتنا تلك هو أن من داخل تلك النخب الفكرية للحركة الوطنية من كان يتحدث عن التهميش الذي لاقته المناطق الأمازيغية جراء انتصار النخب المدينية على الحركات المسلحة في البوادي، فعابد الجابري نفسه كنا نقرأ له في مؤلفاته التي دعا فيها الى قتل الأمازيغية أن هذه المناطق هي من أكثرها تهميشا ومن أكثر المناطق التي استبعدت نخبها الفكرية والسياسية والمقاومة من احتلال المناصب داخل أجهزة الدولة بل ووجدت نفسها بعد الاستقلال خارج مواقع صنع القرار وخارج المناصب الادارية التي ملئت بإداريين وموظفين تابعين للحزب المعلوم.

لقد استبعدت هذه النخب، كما فهمنا، بسبب كونها تنتمي الى المجموعة لسنية معينة، واستبعدت كذلك بسبب كون الفئات المتعلمة منها تخرجت من المدرسة الإسبانية، واستبعدت كذلك لأن القرار الذي اتخذ آنذاك هو إعطاء الاولوية في التوظيف وفي احتلال مواقع القرار لابناء المدينيين الفرنكفونيين الذين تعلموا في المدارس الفرنسية.

هذه هي الأفكار التي كانت شائعة آنذاك ببن الطلبة الامازيغيين الذين أخذوا على عاتقهم الدفاع عن لغتهم وثقافتهم.

وفي سنة 1989 ستعطي المحاضرة التي ألقاها مولود معمري بجامعة وجدة- كلية الآداب وهجا كبيرا للحركة بالجامعة.

فهذه المحاضرة التي دعا إليها محمد الشامي بتنسيق مع إدارة الكلية ستجعل طلبة MCA يستمعون، لأول مرة، الى فاعل أساسي داخل الحركة الامازيغية بالجزائر، كما سنتعرف على هذه الشخصية في ابعادها المغاربية، وكيف انه اشتغل على الامازيغية خلال فترة الحماية بالمغرب منذ الثلاثينيات وفي الجزائر كذلك، بل وتعرفنا فيه كذلك على مساراته بكونه كان قريبا من السلطان محمد الخامس وكان أحد الذين دعوا الى تاسيس اتحاد للكتاب مغاربي قبل ان يسرقه منه العروبيون المغاربة ويحولوه الى اتحاد عروبي.

وبقدر ما تركت هذه المحاضرة تاثيرا عميقا في الطلبة، خاصة الامازيغيين منهم، فإن موته المأساوي وهو راجع من وجدة الى الجزائر بفعل حاثة سير مميتة ترك أثرا مضاعفا، بل وأخذ الكثير منا يطرح تساؤلات عما إذا كانت المخابرات الجزائرية هي من دبرت الحادثة كي تقتله لكونه لم يعد فقط رمزا للحركة الأمازيغية بالقبائل، بل ورمزا كذلك للحركة الأمازيغية بالمغرب. هكذا كنا نحلل ما وقع.

ثم توالت أخبار أخرى عن أمازيغ آخرين تقدميين بل وأكاديميين دافعوا ويدافعون عن الأمازيغية ودفعوا الثمن غاليا من أجلها، وذلك أمثال علي صدقي أزايكو الذي اعتقل بسبب كتابته لمقالة عن الغزوات العربية، ومثل حسن آيت بلقاسم الذي وضع بالسجن بسبب كتابته للوحة بحروف تيفيناغ على باب مكتبه حيث كان يمارس مهنة المحاماة.

والأكثر من ذلك أن أخبارا أخرى بدأت تتسرب الينا من الجزائر عن أحداث وقعت سنة 1980 بمنطقة القبائل، وكيف أن العشرات من القبائليين استشهدوا في سبيل الدفاع عن هويتهم الأمازيغية وأن السبب في اندلاعها لم يكن غير مولود امعمري الذي تم اغتياله وهو في طريقه الى الجزائر.

لم نكن نعرف آنذاك حيثيات ما وقع لكن بالمقارنة بين ما حدث هناك وما يقع في المغرب أصبحنا نتأكد يوما عن يوم أن ايديولوجية استئصال الامازيغية واحدة في كلا البلدين وانها ليست مسلحة فقط بالمدرسة والاعلام والادارة ولكن مسلحة أيضا بالشرطة والجيش.

9وكم كانت حماستنا تكبر أكثر فاكثر عندما “اكتشفنا” أن محمد بن عبد الكريم الخطابي لم يكن ابدا عروبيا كما كان يدرس لنا أو يشاع عنه في الجرائد الوطنية، بل ولم يكن إسلاميا بالمفهوم السياسي للكلمة.

8٠لقد “اكتشفنا” أنه كان أول مدرس للغة الأمازيغية بمدينة مليلية قبل أن يصبح مقاوما، واكتشفنا (او هذا ما قيل لنا) أن برنامجه التعليمي للغة الامازيغية توجد منه نسختان احداهما بهولاندا والثانية باسبانيا؛ واكتشفنا كذلك أن محمد بن عبد الكريم الخطابي يعترف بعظمة لسانه أنه في دفاعه ومقاومته للاستعمارين الإسباني والفرنسي، كان يفعل ذلك بمنطق الوطنية وليس بمنطق التعصب الديني.

وقد استنسخ هذا التصريح الذي كشف فيه عن هذا الموقف مئات المرات من طرف الطلبة، وعلقناه نحن في مرحلة موالية على سبورة الاعلانات بمقر تانوكرا الأول بلعربي الشيخ، وأصبح يشكل دليلا قاطعا، بالنسبة للكثيرين منا، على أنه لم يكن أبدا عروبيا ولا إسلاميا، بل كان في الحقيقة ريفيا أمازيغيا.

إن هذه المعلومات، بما لها وما عليها، ستشكل حافزا قويا لكي نذهب بعيدا في إيماننا بالقضية، بل وتمنح المشروعية التي كانت تنقصنا والحجة على أن عبد الكريم لم يتنصل أبدا من انتمائه الامازيغي.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى